وهذا حق الدين 103
المقدمة :
القرءان هو كلام الله القديم الذِى أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم باللفظ والمعنى للمتعبد بتلاوته وإعجاز الخلق عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه. قال أهل السنة كلام الله منزل غير مخلوق. وهو مكتوب فِى المصاحف محفوظ فِى الصدور مقروء بالألسنة مسموع بالآذان فالإشتغال بالقرءان من أفضل العبادات سواء أكان بتلاوته أم بتدبير معانيه فهو أساس الدين وقد أودع الله فيه علم كل شىء فإنه يتضمن الأحكام والشرائع والأمثال والحكم والمواعظ والتاريخ ونظام الأفلاك فما ترك شيئا من أمور الدين إلا بينه ولا من نظام الأفلاك والحياة إلا أوضحه قال عليه الصلاة والسلام: (وكتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم, هو الفصل الذِى ليس بالهزل من تركه من جبار قصمه الله تعالى ومن ابتغى الهدى فِى غيره أضله الله تعالى, وهو حبل الله المتين, وهو الذكر الحكيم, وهو الصراط المستقيم, وهو الذِى لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضِى عجائبه)أخرجه الترمذِى. وفِى رواية ( هو الذِى لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرءانا عجبا) من قال به صدق ومن حكم به عدل ومن عمل به أجر ومن تمسك به هدِى إلى صراط مستقيم.وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضِى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم( إن هذا القرءان مأدبة الله فأقبلوا من مأدبته ما إستطعتم إن هذا القرءان حبل الله المتين والنور المبين والشفاء الناجح عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن إتبعه لا يزيغ فيستعتب ولا يعوج فيقوم ولا يخلق من كثرة الرد. إتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته كل حرف عشر حسنات, أما إنِى لا أقول ألم حرف ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف).
العرض :
الحمد لله الذِى منَّ علينا بالقرءان العظيم وأكرمنا برسالة سيد المرسلين الذِى بعثه رحمة للعالمين المنزل عليه: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون", أما بعد:
لم يَسبق لأمة من الأمم فِى تاريخ البشر أن تعتني بكتاب من الكتب قدر اعتناء هذه الأمة بالقرءان الكريم حفظًا ودراسة وتدوينًا لكل ما له به صلة من قربٍ أو بعدٍ مدى القرون من فجر الإسلام إلى اليوم والى ما شاء الله وقد صدق الله وعده فِى حفظه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر ءاية 9].
فأين سبق فِى تاريخ البشر أن تحفظ أمة كتابًا تستمر على حفظه على تعاقب القرون, يستظهره الصغير و الكبير, والناشئ و الكهل, فِى المدن و القرى و الأصقاع كلها بحيث لو سها تال فِى كلمة منه أو حرف فِى أبعد المواطن عن العواصم يجد هناك من يرده إلى الصواب ويرشده إليه سوى هذا القراءن الحكيم.
و قد حفظته الأمة يوم أن نزل, واستمرت على استظهاره وحفظه فِى الأقطار الإسلامية كلها, وهذا أمر لا يشك فيه إلا من يشك فِى شمس الضحى, أو يتظاهر بالشك , لحاجة فِى النفس, فِى الحقائق الملموسة .
وكان النبِى صلى الله عليه و سلم فِى غاية من الإهتمام بتحفيظ كل ما نزل من القراءن إثر نزوله, يحض الصحابة على تعلم القراءن و تعليمه وحفظه واستظهاره قائلا لهم :"خيركم من تعلم القراءن وعلمه " وما ورد فِى هذا الصدد من الأحاديث الصحيحة يعد بالعشرات.
ونزول القراءن نجوما سهل على أصحابه رضوان الله عليهم أجمعين أمر حفظه و تعرف أحكامه, و إليه يشير قوله تعالى ( وقرءانًا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) [سورة الإسراء 106].
وكان للنبى صلوات الله و سلامه عليه من الكتاب ما يزيد عددهم على أربعين كاتبا, يبادر كتاب الوحى منهم إلى كتابة كل ما ينزل من الذكر الحكيم إثر نزوله بمحضر الصحابة, والصحابة أنفسهم كانوا يسارعون إلى كتابته أو استكتابه كل على حسب استطاعته ومقدار مقدرته. وكانوا يتلونه على الرسول صلى الله عليه وسلم غدوا وعشيا لإستظهاره كما نزل. ولهذه العناية البالغة فِى كتابته وحفظه وتلاوته ترى الكفار يتقولون ما أخبر الله سبحانه عنهم حيث يقول: ( وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم ءاخرون فقد جاءوا ظلما وزورًا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهِىَ تملى عليه بكرة وأصيلا ) [سورة الفرقان ءاية 5] .
وكان الذين لا أهل لهم من الصحابة الفقراء يأوون إلى صفة مسجد النبِى صلى الله عليه و سلم تحت رعايته عليه السلام يتلون كتاب الله ويتدارسونه حيث كان النبِى صلى الله عليه وسلم يحضهم على حفظه و مدارسته حتى كان لهم دوى بالقراءن فِى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وفيهم نزل قوله تعالى( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشِى يريدون وجهه ) [سورة الكهف ءاية 28].
وكانت الصفة مدرسة لتحفيظ القراءن وتدريس أحكامه لا ملجأ للعجزة فقط. وكم كان النبِى صلى الله عليه وسلم يرسل منهم إلى القبائل لتعليمهم القراءن وتفقيههم فِى الدين.وكان فِى المدينة, زادها الله تشريفا, دار للقراء ينزلها الوافدون من أهل القراءة منذ عهد مصعب بن عمير رضى الله عنه الذِى كان بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة ليعلم أهل المدينة القراءن. وكان النبى صلى الله عليه وسلم أمر أفذاذا من قراء الصحابة أن يقوموا بتعليم القراءن للجمهور, كما أمر الجمهور بتعلم القراءن منهم حتى امتلأت المدينة المنورة بالقراء, وكان النبى صلى الله عليه وسلم يبعث منهم جماعات إلى الجهات التِى أسلم أهلها لتعليمهم القراءن وتفقيههم فِى الدين, وعدد هؤلاء فِى غاية من الكثرة. وقد ذكرت أسماؤهم فِى كتب السير المبسوطة وفِى الكتب المؤلفة فِى الصحابة. والذين استشهدوا منهم غدرا فِى بئر معونة فقط نحو سبعين قارئا حتى استاء النبِى صلوات الله عليه من هذا الغدر غاية الإستياء, فاستمر يقنت فِى الفجر شهرا يدعو على رِعل وذكوان وعُصية بسبب غدرهم بهؤلاء القراء.
وبعد هذه الحادثة ازداد اهتمام الصحابة بحفظ القرءان. وكان من عادة الصحابة أن يعلموا القرءان ءايات ءايات يقومون بتحفيظ هذا سورًا وذاك سورًا أخر ليقوم كل منهم بنصيبه من الحفظ تكثيرًا لعدد حفاظ القرءان بكل وسيلة, فكان منهم من يحفظ القرءان كله, ومنهم من يحفظ سورًا فقط يشاركه فِى حفظها ءاخرون, وهكذا باقِى القرءان موزعًا على جماعات. ومن لا يستظهر القرءان من الجمهور يكثر فيهم جدًا من لا يقل عن أن يكون بحيث ينتبه إلى السهو إذا ما سها التالِى, وذلك من كثرة تلاوتهم للقرءان و توالِى استماعهم إليه. وكان بينهم من يؤم القوم فِى الصلوات الجهرية لا سيما الفجر بقراءة السبع الطوال, بل كان بين الصحابة من يختم القرءان فِى ركعة واحدة كما فعل عثمان وتميم الدارى رضِى الله عنهما, وفعل مثل ذلك أبو حنيفة فِى عهد التابعين, وليس بقليل بين السلف الصالح من كان يختم القرءان فِى كل رمضان ستين ختمة, وأبطأ أهل العلم فِى كل طبقة من يختم فِى كل شهر مرة, والأغلبية العظمى فِى كل طبقة على ختمه فِى كل أسبوع مرة.
وسهل حفظ القرءان على الصحابة ما ءاتاهم الله من قوة الذاكرة وسرعة الحفظ وما حفظه العرب من القصائد والخطب والشواهد والأمثال مما يدهش الأمم, ويقضِى لهم بالتفوق البالغ فِى الحفظ إلا عند أهل القلوب المريضة والأضغان المميتة, فيظهر من ذلك كيف يكون حالهم فِى حفظ القرءان الذِى أخذ بمجامع قلوبهم, وبهر بصائرهم ببلاغته البالغة, ومعانيه العالية مما ينادِى بأنه تنزيل من حكيم حميد.
الخاتمة :
وقد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يعارض القرءان على جبريل مرة فِى كل سنة فِى شهر رمضان, وفِى عام وفاته صلى الله عليه وسلم كانت المعارضة بينهما مرتين فِى شهر رمضان منه. والمعارضة تكون بقراءة هذا مرة واستماع ذاك ثم قراءة ذاك واستماع هذا, تحقيقًا لمعنى المشاركة فتكون القراءة بينهما فِى كل سنة مرتين, وفِى سنة وفاته أربع مرات, فتفرس النبِى صلى الله عليه وسلم من تكرير المعارضة فِى السنة الأخيرة قرب زمن لحوقه بالرفيق الأعلى, فجمع الصحابة رضِى الله عنهم فعرض القرءان عليهم ءاخر عرضة.
تحيااتى
المفضلات