الشيخ المربي الفاضل / حبيب الكاظمي

إن كل حركة يقوم بها المؤمن، لا بد لها من فقهٍ ظاهري وباطني.. وواضح أن حضور مجالس عزاء سيد الشهداء عليه السلام يمثل إقامة لشعيرة من شعائر الدين الحنيف.. إذ لولا دمه الطاهر، لما بقي من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه.. وهي من مصاديق إحياء الأمر الذي دعا الإمام الصادق عليه السلام لمن أحياه قائلاً : " رحم الله من أحيا أمرنا "..

ولا شك أن الحركة العاشورائية التي قام بها الحسين عليه السلام وصحبه من أبرز محطات التاريخ بحيث يمكن القول بأنها الثالثة بعد خلقة آدم من حيث أصل إقامة المشروع الإلهي المتمثل بجعل الخليفة في الأرض وبعد بعثة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من حيث تأسيس الرسالة الخاتمة إلى يوم القيامة وكانت الثالثة حركة الحسين عليه السلام من حيث تجديد هذه الرسالة و تخليصها مما علق بها طوال نصف قرن من غياب صاحب الرسالة بحيث أصبح على رأس هرم المسلمين - وهو أعلى قمة في هيكلية الأمة الخاتمة - شخصية تعد في أسفل القائمة خارج نطاق هيكل الأمة ألا وهو يزيد الذي نجل ونكرم الإسلام والإنسانية أن يكون هو أحد أفرادها.. ومن هذا المنطلق، أحببنا التنويه على ملاحظات مهمة في هذا المجال وذلك لان عطاء هذه المواسم كعطاء الشمس، فهي واحدة في أصل العطاء، ومتعددة في أثارها الخارجية، بحسب القابليات، واختلاف درجات المستقبلين لهذا العطاء.. وإليكم بعض ما أنعم الله تعالى علينا من الملاحظات في هذا المجال :

(1) لا بد لأصحاب المجالس من أن يقصدوا القربة الخالصة لله تعالى فإن الناقد كما نعلم بصير، بعيدين عن كل صور الشرك الخفي، ومما لا شك فيه أن البركات التي ذكرت من خلال النصوص الكثيرة مترتبة على مثل هذه النية الخالصة، وعلامة ذلك عدم الاهتمام بعدد الحضور وإطرائهم وما يعود إلى مثل هذه العوالم التي قد تستهوي عامة الخلق، فالأجر مرتبط بما يقوم به هو، لا بما يقوم به الآخرون.. فما عليك إلا أن تفتح بابك، وتنشر بساطك، كما ذكر الصادق عليه السلام في باب المعاملة.

(2) أن مجالس ذكر الحسين عليه السلام إنما هي في واقعها ذكر لله تعالى، فإنه إنما اكتسب الخلود، بتحقيقه أعلى صور العبودية لرب العالمين، وهي الفداء بالنفس، وأية نفس ؟!.. وعليه فلابد من توقير تلك المجالس بالدخول فيها بالتسمية والطهور، واستحضارها كجامعة من اعرق الجامعات الإسلامية الشعبية، والتي تضم في قاعاتها المتعددة - من أكواخ البوادي إلى أفخم الأبنية - مختلف الطبقات الاجتماعية، وهذا أيضاً من أسباب التفوق العلمي في القاعدة الشعبية للموالين نسبة إلى غيرهم، وذلك لتعرضهم لهذا الإشعاع النوري منذ نعومة أظفارهم.

(3) لابد من الاستعداد النفسي قبل دخول المجلس، فيستحسن الاستغفار وذكر الله تعالى كثيراً، والصلوات على النبي وآله الطاهرين، والتهيؤ النفسي لنزول النفحات الإلهية في ذلك المكان، إذ ما من شك أن لله تعالى في أيام دهرنا نفحات، بحسب الأزمنة والأمكنة، ولا شك أن مجلس ذكر الإمام الشهيد في مضان نزول أنواع الرحمة الإلهية التي لا يمكن أن نحصل عليها في غير تلك المجالس، ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن الإمام الرضا عليه السلام وعدنا بذلك من خلال قوله عليه السلام : " فإن البكاء عليه يحط الذنوب العظام ".

(4) إذا كان المجلس مقاماً في بيت من بيوت الله تعالى، فلا ننسى تحية المسجد بركعتين مع توجه، بالإضافة إلى مراعاة جميع آداب المساجد المعروفة في الفقه، وخاصة الالتزام بالحجاب الشرعي للنساء، وعدم اختلاط الرجال بالنساء في الطريق العام، فإن موجبات حبط الأجر موجودة دائمة، ولا ينبغي التعويل على قداسة الجو للتفريط ببعض الواجبات الواضحة فقها وأخلاقاً، ولطالما فوتنا على أنفسنا المكاسب الكبيرة بعد تحققها وذلك بالتفريط في التحرز من موانع القبول.

(5) ليكن الهدف من استماع الخطب، هو استخلاص النقاط العملية التي يمكن أن تغير مسيرة الفرد في الحياة، وعليه فانظر إلى ما يقال، ولا تنظر إلى من يقول، وعلى المستمع أن يفترض نفسه أنه هو المعني بالخطاب الذي يتوجه للعموم، ولا ينبغي نسيان هذه الحقيقة المتكررة في حياتنا وهى أن الله تعالى قد يجري معلومة ضرورية للفرد على لسان متكلم غير قاصد لما يقول، ولكن الله تعالى يجعل في ذلك خطابا لمن يريد أن يوقظه من غفلة من الغفلات القاتلة.

(6) لنحاول أن نعيش بأنفسنا الأجواء التي يمكن أن تثير عندنا الدمعة، فإن من أقرب المجالس إلى القبول ما كان في الخلوات كجوف الليل ومن دون إثارة خارجية، ليعيش العبد مرارة ما جرى يوم الطف تلك المرارة التي آلمت قلوب جميع الصديقين حتى الذين سمعوا بمأساة سيد الشهداء عليه السلام قبل أن يولد، وذلك باستذكار ما جرى في واقعة الطف، من دون الاعتماد على ما يذكره الخطيب فحسب.. ومن المعلوم أيضاً أن التوفيق في هذا المجال مرتبط بمطالعة إجمالية لمجمل هذه السيرة العطرة بما فيها الجانب المأساوي، وذلك من المصادر المعتبرة.

(7) إذا لم نوفق للبكاء، فلنحاول أن نتباكى، ونتظاهر بمظهر الحزن والتلهف على ما دهى سيد الشهداء عليه السلام مع عدم الاعتناء بالجالسين حولك، فإن من تلبيس أبليس أن يمنعنا من ذلك بدعوى الرياء.. وليس من الأدب أن يعامل المستمع ساعة النعي كساعة الوعظ حتى في طريقة الاستماع.. ولا يخفى على المتأمل أن رقة القلب حصيلة تفاعلات سابقة، فالذي لا يمتلك منهجاً تربويا لنفسه في حياته، من الطبيعي أن يعيش حالة الذهول الفكري إضافة إلى الجفاف العاطفي.

(8) إذا استمرت قسوة القلب طوال الموسم، فلنبحث عن العوامل الموجبة لهذا الخذلان، فقد ورد عن علي عليه السلام أنه قال : " ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب ".. وخاصة إذا استمرت هذه الحالة فترة من الزمن، فإنها مشعرة بعلاقة متوترة مع الغيب، إذ كيف لا يتألم الإنسان لما جرى على من يحب، إن كان هنالك حب في البين ؟!.. ولا شك أن الذي يعيش هذا الجفاف المحزن في وقت أحوج ما يكون فيه العبد إلى الرقة العاطفية عليه أن يلتجئ للاستغفار الحقيقي والذي أثره ترك المعصية، وكم من الجميل أن ينتهي موسم الولاية بخاتمة توحيدية بمعنى الإنابة إلى الله تعالى، وهذا بدوره مما سيجعل للمواسم العزائية وقعاً في نفوس الذين قد لا يتفاعلون مع هذه المشاعر في بادئ النظر.

(9) لنستغل ساعة الدعاء بعد انتهاء المجلس، فإنها من ساعات الاستجابة، وحاول أن يكون لك جو من الدعاء الخاص، غير مكتف بما دعا به الخطيب، فالملاحظ أن الدعاء بعد المجلس لا روح فيه بشكل عام، أي بمعنى أن الناس لا ينظرون إلى هذه الفقرة نظرة جد واعتناء، وكأن الحديث مع الرب المتعال أمر هامشي، لا يعطى له ما يستحقه من الالتفات والحال أنه من الممكن أن يحقق العبد حاجاته الكبرى بعد الدموع التي جرت على أحب الخلق إلى الله تعالى في زمانه.

(10) لنحاول أن نبحث عن التنوع في مجالس العزاء، إذ لكل مجلس هيئته الخاصة، ولكل خطيب تأثيره الخاص.. وعلى المستمع أن يبحث عن المجلس الذي يثير فيه العبرة والاعتبار، تاركاً كل الجهات الباطلة الأخرى : كإرضاء أصحاب المجالس، أو التعصب لجهات معينة، أو الميل القلبي الذي لا مبرر له سوى الارتياح الذاتي لا الرسالي.. ونعتقد أن نزول البركات المادية والمعنوية مرتبط بنسبة طردية مع هذه النوايا التي لا يعلمها إلا الله تعالى.