نظرا لما تمثله البسملة من أهمية كبرى في حياة المؤمن, نضع أمام القارىء هذا البحث حول البسملة للإمام الخوئي- قدس سره - نقلا عن كتابه البيان في تفسير القرآن.
اللغة الاسم : في اللغة بمعنى العلامة ، وهمزته همزة وصل ، وليست من الحروف الاصلية ، وفيه لغات كثيرة والمعروف منها أربع : اسم ، سم وكلاهما بكسر الاول وضمه وهو مأخوذ من السمو " الارتفاع " باعتبار أن المعنى يرتفع به فيخرج
من الخفاء إلى الظهور ، فإن المعنى يحضر في ذهن السامع بمجرد سماع اللفظ بعد أن لم يكن فيه ، أو باعتبار أن اللفظ يرتفع بالوضع فيخرج من الاهمال إلى الاستعمال ، وقيل باشتقاقه من السمة " العلامة " وهو خطأ لان جمع اسم أسماء ، وتصغيره سمي ، وعند النسبة إليه يقال : سموي واسمي وعند التعدية يقال : سميت وأسميت .
ولو كان مأخوذا من السمة لقيل في جمعه أو سام ، وفي تصغيره وسيم ، وفي النسبة إليه وسمي ، وعند التعدية وسمت وأو سمت .
الله : علم للذات المقدسة ، وقد عرفها العرب به حتى في الجاهلية ، قال لبيد :
ألا كل شئ ما خلا الله باطل * وكل نعيم لا محالة زائل
وقال سبحانه : " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله 31 : 25 " .
ومن توهم أنه اسم جنس فقد أخطأ ، ودليلنا على ذلك أمور :
الاول : التبادر ، فإن لفظ الجلالة ينصرف بلا قرينة إلى الذات المقدسة ، ولا يشك في ذلك أحد ، وبإصالة عدم النقل يثبت أنه كذلك في اللغة ، وقد حققت حجيتها في علم الاصول .
الثاني : ان لفظ الجلالة - بما له من المعنى - لا يستعمل وصفا ، فلا يقال : العالم الله ، الخالق الله ، على أن يراد بذلك توصيف العالم والخالق بصفة هي كونه الله وهذه آية كون لفظ الجلالة جامدا ، وإذا كان جامدا كان علما لا محالة ، فإن الذاهب إلى أنه اسم جنس فسره بالمعنى الاشتقاقي .
الثالث : أن لفظ الجلالة لو لم يكن علما لما كانت كلمة " لا إله إلا الله " كلمة توحيد ، فإنها لا تدل على التوحيد بنفسها حينئذ ، كما لا يدل عليه قول : لا إله إلا الرازق ، أو الخالق ، أو غيرهما من الالفاظ التي تطلق على الله سبحانه ، ولذلك لا يقبل إسلام من قال إحدى هذه الكلمات .
الرابع : أن حكمة الوضع تقتضي وضع لفظ للذات المقدسة ، كما تقتضي الوضع بإزاء سائر المفاهيم ، وليس في لغة العرب لفظ موضوع لها غير لفظ الجلالة ، فيتعين أن يكون هو اللفظ الموضوع لها .
إن قلت : إن وضع لفظ لمعنى يتوقف على تصور كل منهما ، وذات الله سبحانه يستحيل تصورها ، لا ستحالة إحاطة الممكن بالواجب ، فيمتنع وضع لفظ لها، ولو قلنا بأن الواضع هو الله - وأنه لا يستحيل عليه أن يضع إسما لذاته لانه محيط بها - لما كانت لهذا الوضع فائدة لاستحالة أن يستعمله المخلوق في معناه فإن الاستعمال أيضا يتوقف على تصور المعنى كالوضع ، على أن هذا القول باطل في نفسه .
قلت : وضع اللفظ بإزاء المعنى يتوقف على تصوره في الجملة ، ولو بالاشارة إليه ، وهذا أمر ممكن في الواجب وغيره ، والمستحيل هو تصور الواجب بكنهه وحقيقته ، وهذا لا يعتبر في الوضع ولا في الاستعمال ، ولو اعتبر ذلك لامتنع الوضع والاستعمال في الموجودات الممكنة التي لا تمكن الاحاطة بكنهها : كالروح والملك والجن ، ومما لا يرتاب فيه أحد أنه يصح استعمال اسم الاشارة أو الضمير ويقصد به الذات المقدسة ، فكذلك يمكن قصدها من اللفظ الموضوع لها ، وبما أن الذات المقدسة مستجمعة لجميع صفات الكمال ، ولم يلحظ فيها - في مرحلة الوضع - جهة من كمالاتها دون جهة صح أن يقال : لفظ الجلالة موضوع للذات المستجمعة لجميع صفات الكمال .
إن قلت : إن كلمة " الله " لو كانت علما شخصيا لم يستقم معنى قوله عزاسمه : " وهو الله في السماوات وفي الارض 6 : 3 " . وذلك لانها لو كانت علما لكانت الآية قد أثبتت له المكان وهو محال ، فلا مناص من أن يكون معناه المعبود ، فيكون معنى الآية : وهو المعبود في السماوات والارضين .
قلت : المراد بالآية المباركة أنه تعالى لا يخلو منه مكان ، وأنه محيط بما في السماوات وما في الارض ، ولا تخفى عليه منها خافية ، ويشهد لهذا قوله تعالى في آخر الآية الكريمة : " يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون 6 : 3 " .
وقد روى أبو جعفر وهو محمد بن نعمان في ظن الصدوق قال : " سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : " وهو الله في السماوات وفي الارض 6 : 3 " . قال عليه السلام : " كذلك هو في كل مكان ، قلت : بذاته ؟ قال : ويحك إن
الاماكن أقدار ، فإذا قلت في مكان بذاته لزمك أن تقول في أقدار وغير ذلك ، ولكن هو بائن من خلقه محيط بما خلق : علما وقدرة وإحاطة وسلطانا . . . " ( 1 ) .
والالف واللام : من كلمة الجلالة وإن كانت جزء منها على العلمية ، إلا أن الهمزة فيها همزة وصل تسقط في الدرج ، إلا إذا وقعت بعد حرف النداء ، فتقول يا الله بإثبات الهمزة وهذا مما اختص به لفظ الجلالة ، ولم يوجد نظيره في كلام العرب قط ، ولا مضايقة في كون كلمة الجلالة من المنقول ، وعليه فالاظهر أنه مأخوذ من كلمة " لاه " بمعنى الاحتجاب والارتفاع ، فهو مصدر مبني للفاعل ، لانه سبحانه هو المرتفع حقيقة الارتفاع التي لا يشوبها انخفاض ، وهو - في غاية ظهوره بآثاره وآياته - محتجب عن خلقه بذاته ، فلا تدركه الابصار ولا تصل إلى كنهه الافكار :
فيك يا أعجوبة الكون * غدا الفكر كليلا
أنت حيرت ذوي اللب * وبلبلت العقولا
كلما أقدم فكري * فيك شبرا فر ميلا
ناكصا يخبط في عشواء * لا يهدي السبيلا
ولا موجب للقول باشتقاقه من " أله " بمعنى عبد ، أو " أله " بمعنى تحير ليكون الاله مصدرا بمعنى المفعول - ككتاب - فانه التزام بما لا يلزم .
الرحمن : مأخوذ من الرحمة ، ومعناها معروف ، وهي ضد القسوة والشدة . قال الله تعالى : " أشداء على الكفار رحماء بينهم 48 : 29 . إعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم 5 : 98 " . وهي من الصفات الفعلية ، وليست رقة القلب مأخوذة في مفهومها ، بل هي من لوازمها في البشر .
فالرحمة - دون تجرد عن معناها الحقيقي - من صفات الله الفعلية كالخلق والرزق ، يوجدها حيث يشاء .
قال عز وجل : " ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم أو إن يشأ يعذبكم 17 : 54 .
يعذب من يشآء ويرحم من يشآء وإليه تقلبون 29 : 21 " . حسب ما تقتضيه حكمته البالغة .
وقد ورد في الآيات طلب الرحمة من الله سبحانه : " وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين 23 : 118 "
وقال غير واحد من المفسرين وبعض اللغويين : إن صيغة الرحمن مبالغة في الرحمة ، وهو كذلك في خصوص هذه الكلمة ، سواء أكانت هيئة فعلان مستعملة في المبالغة أم لم تكن ، فان كلمة " الرحمن " في جميع موارد استعمالها محذوفة المتعلق ، فيستفاد منها العموم وأن رحمته وسعت كل شئ . و مما يدلنا على ذلك أنه لا يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحمن ، كما يقال : إن الله بالناس أو بالمؤمنين لرحيم . وكلمة " الرحمن " بمنزلة اللقب من الله سبحانه ، فلا تطلق على غيره تعالى ، ومن أجل ذلك استعملت في كثير من الآيات الكريمة من دون لحاظ مادتها قال سبحانه : " قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شئ 36 : 15 .
إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون : 23 .
هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون : 52 .
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت 67 : 3 " .
ومما يقرب اختصاص هذا اللفظ به قوله تعالى : " رب السماوات والارض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا 19 : 65 " .
فان الملحوظ أن الله تعالى قد اعتنى بكلمة " الرحمن " في هذه السورة " مريم " حتى كررها فيها ست عشرة مرة . وهذا يقرب أن المراد بالآية الكريمة أنه ليس لله سمي بتلك الكلمة .
الرحيم : صفة مشبهة ، أو صيغة مبالغة . ومن خصائص هذه الصيغة أنها تستعمل غالبا في الغرائز واللوازم غير المنفكة عن الذات : كالعليم والقدير والشريف ، والوضيع والسخي والبخيل والعلي والدني .
فالفارق بين الصفتين : أن الرحيم يدل على لزوم الرحمة للذات وعدم انفكاكها عنها ، والرحمن يدل على ثبوت الرحمة فقط .
ومما يدل على أن الرحمة في كلمة " رحيم " غريزة وسجية : أن هذه الكلمة لم ترد في القرآن عند ذكر متعلقها إلا متعدية بالباء ، فقد قال تعالى : " إن الله بالناس لرؤف رحيم 1432 . وكان بالمؤمنين رحيما 33 : 43 " . فكأنها عند ذكر متعلقها انسلخت عن التعدية إلى اللزوم .
وذهب الآلوسي إلى أن الكلمتين ليستا من الصفات المشبهة ، بقرينة إضافتهما إلى المفعول في جملة : " رحمن الدنيا والآخرة وحريمهما " . والصفة المشبهة لا بد من أن تؤخذ من اللازم ( 2 ) .
وهذا الاستدلال غريب ، لان الاضافة في الجملة المذكورة ليست من الاضافة إلى المفعول بل هي من الاضافة إلى المكان أو الزمان . ولا يفرق فيها بين اللازم والمتعدي .
ثم إنه قد ورد في بعض الروايات : أن " الرحمن " اسم خاص ومعناه عام وأما لفظ " الرحيم " فهو اسم عام ، ومعناه خاص ومختص بالآخرة أو بالمؤمنين ( 3 ) إلا أنه لا مناص من تأويل هذه الروايات أو طرحها ، لمخالفتها الكتاب العزيز ، فانه قد استعمل فيه لفظ " الرحيم من غير اختصاص بالمؤمنين أو بالآخرة ففي الكتاب العزيز :
" فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم 14 : 36 .
نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم 15 : 49 .
إن الله بالناس لرؤف رحيم 22 : 65 .
ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما 17 : 66
ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما 33 : 24 " .
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة ، وفي بعض الادعية والروايات : رحمن الدنيا الآخرة ورحيمهما ( 4 ) .
ويمكن أن يوجه هذا الاختصاص بأن الرحمة الالهية إذا لم تنته إلى الرحمة في الآخرة ، فكأنها لم تكن رحمة ( 5) .
وما جدوى رحمة تكون عاقبتها العذاب والخسران ؟ فإن الرحمة الزائلة تندك أمام العذاب الدائم لا محالة ، وبلحاظ ذلك صح أن يقال : الرحمة مختصة بالمؤمنين أو بالآخرة .
هوامش :
( 1 ) تفسير البرهان ج 1 ص 315 . ( * )
( 2 ) تفسير الآلوسي ج 1 ص 59 .
( 3 ) تفسير الطبري ج 1 ص 43 ، وتفسير البرهان ج 1 ص 28 .
( 4 ) الصحيفة السجادية في دعائه - ع - في استكشاف الهموم ، ومستدرك الحاكم ج 1 ص 155 .
( 5 ) اشير إلى ذلك في بعض الادعية المأثورة . ( * )
منقوول..
المفضلات