وتبقى هذه القصّة شامخة بالغة ضد ما في الحياة من عجز وكذب وألم!
... في كربلاء حيث عانق مائة رجل أسنة الرماح، وحدّ السيف ودفعوا من أرواحهم ضريبة التمسك بالحق والعدل والحرية من أجل الجماهير التي تحكم فيهم الجور المستند على الاستغلال.. فكان الموت.. موت البطولة لأن أنصار الحسين هم الذين فتشوا عنه وحينما وقعوا صرعى على الأرض كانت راية العدالة تخفق على قبورهم هذه الراية التي لا تسقى إلا بدماء الشهداء..
حاصر العدو معسكرهم.. لم يبق لديهم أي أمل في النجاة.. عدوهم يملك قوات ضخمة من المشاة، والفرسان تكفي لسحق أضعاف أضعافهم فقط عدد المشاة كان يزيد على عشرة آلاف مقاتل..
أما هم.. فإن كلهم - مع الأطفال والنساء - لم يتجاوز عددهم المائتين.. مائة منهم فقط كانوا يستطيعون حمل السلاح..
هل استسلم منهم أحد؟
هل فرّ من الموت؟
هل حاول استعطاف العدو؟
لم يحدث أي شيء من ذلك.
لقد كان باستطاعة أي واحد منهم أن يستسلم للعدو، وكان ذلك يكفي لأن يحصل على جائرة ثمينة، ومجد دنيوي كبير..
وكان باستطاعة أي واحد منهم أن يهرب في أي لحظة.. فالأرض كانت رملية، والمعارك كانت تثير الغبار الكثيف مما كان يشكل مضلة طبيعية للفرار والاختفاء وراء النخيل.. ولكنهم لم يفعلوا.
إن قناعتهم كانت تضرب حجابا بينهم وبين التفكير في مثل ذلك.. بعضهم كان يوصي الآخر بالحرب، وبعضهم كان يدفع الثاني إلى الموت..
هذا واحد منهم اسمه: (عابس بن شبيب).
صفته الاجتماعية: جيده جداً.. وله سوابق بطولية في معركة أذربيجان، يلتفت يوم عاشوراء إلى (شوذب مولى شاكر) ويقول له: (يا شوذب... ما في نفسك أن تصنع)؟
فيجيبه: ما أصنع؟ أقاتل معك دون ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أقتل.
ذلك الظن بك... والآن تقدم بين يدي أبي عبد الله حتى يحتسبك كما احتسب غيرك من أصحابه، وحتى أحتسبك أنا، فإنه لو كان معي الساعة أحد، وأنا أولى به منك لسرني أن يتقدم بين يدي حتى احتسبه.
وأضاف:
(أن هذا يوم ينبغي لنا أن نطلب الأجر فيه بكل ما قدرنا فيه، فإنه لا عمل بعد اليوم.. وإنما هو الحساب).
ويتقدم شوذب بين يديه، ويقاتل حتى يقتل..
ثم يتقدم هو.. يقف أمام الحسين ويقول له:
(والله ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد اعز عليّ ولا أحب إليّ منك يا أبا عبد الله.. أما والله لو قدرت على أن أدفع عنك الضيم والقتل بشيء أعز عليّ من نفسي ودمي لفعلت..)
إن التأريخ شهد بطولات كثيرة.. ولكنه لم يشهد قناعة كهذه القناعة.
لم يشهد التأريخ أن ترتفع رغبة الشهادة لدى مقاتلين كلما تقل فرص النجاح، فيزداد إصرار الشهداء على مواصلة الحرب كلما يسقط ضحايا أكثر منهم، وتبدو النهاية لهم بشكل أوضح..
أننا أمام نوع فريد من الرجال..
فها نحن نجد نزاعاً يجري بين أصحاب الإمام - بعد المعركة الاجتماعية الأدنى - وفي بداية المعارك الانفرادية.
هذا النزاع كان حول: من يتقدم للحرب أولا؟ فالأصحاب كانوا مصرين على أن يتقدموا للحرب قبل بني هاشم بينما بنو هاشم كان مصرين على أن يتقدموا للحرب قبل الأصحاب..
وقد حسم الإمام نزاعهم عندما نزل عند رغبة الأنصار، وسمح لهم بالتقدم على بني هاشم وفق خطته العسكرية..
إن هذا يعكس فيهم روح الإيمان الصادق الذي يجعل صاحبها يزداد شوقاً للشهادة كلما اشتد إحساسه بالوحدة..
هؤلاء كانوا صادقين مع الله: يحبونه ويحبهم.. ويشتاقون إليه ويشتاق إليهم..
أما الموت، فكان عندهم سلماً إلى جنان الله..
أو ليسوا على حق؟
هذه هي القضية..
إنهم يتحيزون بأهدافهم، ومنطلقاتهم عن كل من يموت أو يقتل..
إن صفحات الجرائد مليئة كل يوم بالمعارك والقتلى والضحايا، ولكنها غالباً ما تكون معارك تافهة وقتلى تافهون.. وضحايا ضائعون.. فمنذ أن خلق الله الأرض والإنسان يقتل أخاه الإنسان ويعتدي عليه..
ولكن قضية أصحاب الإمام هي قضية هدف.. فهم كانوا يقاتلون لله والعدل والحرية..
وما دام أنهم يقاتلون لله، فهم يلتذون بالموت..
ومادام أنهم يدافعون عن العدل، فهم لا يبالون الموت.
وما دام أنهم يبحثون عن الحرية فهم صامدون في المعارك..
وإذا كان وصف: (الباحث عن الموت) مبالغة في حق أي إنسان فهو قليل في حق أصحاب الحسين.
لنعد إلى قصة عابس، لقد تركناه وهو يحاور الإمام ويلتمس الإذن لدخول المعركة.. هاهو يحصل على ذلك.. فيهرول إلى ساحة القتال وهو يقول للإمام:
- أشهد الله إني على هديك.. وهدي أبيك.
ويقف وسط الساحة، يطلب المبارزة، فيصيح أحد أفراد العدو في رفاقه:
- هذا أسد الأسود، هذا عابس بن شبيب.
فيحجمون عن مقاتلته.
بقي فتره طويلة ينتظر العدو، ولكن بلا جدوى..
وهنا عرف أنه يخيفهم، وأنه لو بقي على حالته يحمل الدرع، ويلبس لامة الحرب لتأخر عن ركب الشهداء، فعمد إلى درعه فرماه، وعمد إلى لامة حربه فمزقها وضرب بخوذته الأرض، وبدأ هجومه على العدو مجرداً من ذلك فقال له زميله:
- ما أنت صانع؟ أمجنون أنت؟
فأجاب. لا تلومونني فحب الحسين هو الذي أجنني.
وكالطفل الباحث عن ثدي أمه.. كان يبحث عن كأس الشهادة بلا لامة حرب ولا درع، ولا خوذة..
ولما نالها قال بصوت ضعيف:
- الحمد لله..
ومات..
وأخيراً وليس آخراً لأنه لكل واحد من هؤلاء له قصة وبطولة.. سيبقى دم الشهداء الذين تدفق من نحور أصحاب الحسين الذي سيظل ينبع في كل أرض يسقط عليها شهيد من أجل حقه وأرضه ووطنه وقيمه..سيبقى ذلك الدم كأعظم نبع في الوجود.
المفضلات