سفير الحسين (ع)
في السفارة والسفير
قيس بن مسهر الصيداوي (رض)
مسلم بن عقيل (رض)
من منا لا يعرف مسلم بن عقيل بن أبي طالب؟!
ذلك الفتى السفير والدبلوماسي القدير الذي أنفذه الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة لكي يهيئ القواعد الشعبية لاستقباله بعد أن كثرت كتبهم ورسلهم يستعجلونه القدوم (فقد أخضر الجناب وأينعت الثمار وأعشبت الأرض وأورقت الأشجار).
ولاشك أن تمثيل نفسية الإنسان الكامل بأوضح مجاليها إنما هو ببث أفكاره الناضجة والإشادة بنواياه الحسنة وهي الغاية الفذة من إرسال الرسول سواء في ذلك أن يكون القصد به نشر أخلاق تتهذب بها النفوس أو تعليم علوم ناجعة تتكهرب بها العقول أو إقامة عدل ترتاح بظله الأمم أو الدعوة إلى دين تعتنقه الأقوام أو توطيد سياسة تهش إليها الأمة فلا ندحة للمرسل إلا أن يبعث لأي من هذه الغايات الكريمة من هو المثل الأعلى فيها من بين لفيفه وحاشيته فيكون نبوغ الرسول مجلبة لرغبات الأمة الموصلة إلى مرضاة ذلك المصلح ووقوفه على غايته من الإرسال.
وحينئذ، بجب أن يكون الرسول حكيماً، في عمله بليغاً في منطقه، ليضع الأمور في نصابها ويكون قوله على وفق رأيه السديد ولا تفوته مقتضيات الأحوال فيكون أدعى لنشر الدعوة وأنمّ عن عبقرية المرسل.
لذلك فإن الحسين (عليه السلام) لم يرسل مسلماً إلى العراق والياً من قبله وممثلاً عنه إلا وهو يعلم أنه من فقهاء بيته الهاشمي وعلماء أسرته وأتقياء فئته وساسة ذويه ومن ذوي الحنكة واللياقة من قومه وأنه لجدير بحمل هذه الأمانة والقيام بهذا العبء وتهذيب الأمة وإصلاح الفاسد ودحض الأباطيل فلا يحتاج إلى شرح ما يجب عليه من الأعمال لعقله الوافر وكياسته وعلمه الغزير وسياسته الحكيمة.
ومن هنا اقتصر الإمام الحسين (عليه السلام) في صك الولاية الذي منحه مسلماً على تعريف أهل الكوفة بأن مسلماً أخوه وثقته والمفضل عنده من أهل بيته.فما كان من ابن عقيل إلا القيام بما انتدب إليه من حمل أعباء النيابة الخاصة ومعه صك الولاية أو الشرف الوضاح والسؤدد الخالد فخرج من مكة للنصف من شهر رمضان على طريق المدينة وإذ وصلها صلى في مسجد الرسول وزار بقعته المقدسة وودعه الوداع الأخير وجدد هنالك المواثيق المؤكدة على ما انطوت عليه أضالعه من التضحية والمفاداة دون أحدى الحسنين: الحياة الحرة السعيدة، أو الخلود بالذكر المؤيد بمرضاة رب العالمين. ثم ودع أهله وسافر إلى العراق ومعه قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الأزدي مع دليلين استأجرهما من قيس يدلانه على الطريق.
ولم يأخذ الطريق الجدد إلا وألق الحق معه ولم يهبط وادياً إلا وعبق الصدق يصحبه ومزيج نفسه شهامة من قومه وبسالة من عمه أمير المؤمنين (عليه السلام) وعزيمة ممن شرفه بالولاية والنيابة عنه سيد الشهداء وأنه لا يرى الموت دون الحق إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما.
في الكوفة:
عندما ورد مسلم الكوفة نزل في دار المختار ابن أبي عبيد الثقفي وانثال عليه الناس زرافات ووحداناً يهتفون بالترحيب به فقرأ عليهم كتاب أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وعرفهم أنه مجيبهم إلى ما يريدون إن لزموا العهد وتدرعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم وبعد أن فرغ من التعريف بأمر البيعة الذي يريد منهم تدافع الناس يمسحون أيديهم على يده هاتفين بالرضا والتسليم كما فعل الأنصار مع النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة العقبة وقريش يوم الفتح.. فبلغ عدد من بايع مسلماً (عليه السلام) ثمانية عشر ألفاً أو خمسة وعشرين ألفاً وقيل أربعون ألفاً... وقد كتب إلى الحسين في ذلك وطلب منه العجل في القدوم، كما كتب الكوفيون إليه قائلين: (يا ابن رسول الله إن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر) ولكن سرعان ما انقلبوا على أعقابهم فخسروا شرف الدنيا كما عداهم الفوز في الدين، وجرى على مسلم في الكوفة ما جرى على الحسين (عليه السلام) فيما في كربلاء من غدر الناس وخذلهم ونكثهم العهود والمواثيق والبيعة بوحي من الطمع والشهوة والخوف وحب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة.
ولعل من أعظم الدروس التي نستقيدها من ابن عقيل إذ نحن بصدد الكلام عنه هو الوفاء وعدم الغدر حتى بالعدوّ القاهر وذلك حين سنحت له الفرصة للفتك بابن زياد غيلةً فلم يفعل، وقصة ذلك : أن شريك الأعور نزل في دار هانئ بن عروة لمواصلة بينهما وكان فيها مسلم بن عقيل وحدث أن مرض شريك فأرسل ابن زياد إليه إني عائد لك فأخذ شريك يحرض مسلماً على الفتك بابن زياد وقال له: إن غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى إذا اطمأن عندي اخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة مع العافية.
وبينا هم على هذا إذ نودي: الأمير على الباب فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيد الله فلما استبطأ شريك خروج ابن عقيل أخذ عمامته من على رأسه ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلماً:
ما الانتظار بسلمى لا تحييوهـــا حيوا سليمي وحيوا من يحييوها
هل شربة عذبة أسقى على ظمأٍ ولو تلفت وكان منيّتــــــي فيهـــا
وأن تخشيت من سلمى مراقبــة فلست تأمن يوماً من دواهيهـــــا
وما زال يكرره وعينه واقعة على الخزانة ثم صاح بصوت رفيع اسقنيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيد الله إلى هاني وقال أن ابن عمك يخلط في علته فقال هاني إن شريكا يهجر منذ وقع في علته وأنه ليتكلم بما لا يعلم فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك: ما منعك منه؟ قال (عليه السلام): منعني خلتان: الأولى حديث علي (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الإيمان قيد الفتل فلا يفتك مؤمن، والثانية: إمرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت علي بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي.
لله أبوك يا ابن عقيل! عرضت بنفسك للهلاك تعليماً للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقاً لا حباً للفوز بالرضوان فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.
فالأمة إذا بلغها أن هذا الداعي إلى الحق (مسلم) ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر وذهب ضحية الشرف والسؤدد والخطر ضحية المجد والكرامة كان هذا دليلاً للتأسي به. وللشيعة نفوسٌ نزاعة إلى اقتصاص أثر أهل البيت (عليهم السلام) والاستنارة بضوء تعاليمهم.
فمسلم (عليه السلام) كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروساً أخلاقية في التجنب عن رذيلة القتل والغدر ولو كان ثمن ذلك التضحية بالنفس والنفيس.
السفارة لغةً:
في مجمع البحرين، السّفر: الكتاب يسفر عن الحقائق والسفير: الرسول بين القوم يزيل ما بينهم من الوحشة.
والسفارة بالكسر: الرسالة فالرسول والملائكة والكتب مشتركة في كونها سافرة عن القوم بما اشتبه عليهم وفي الحديث حق إمامك عليك في صلاتك بأنك تعلم أنه تقلد السفارة أي الرسالة بينك وبين ربك، والمقصود إمام الجماعة واسطة بين المأموم وربه وقد قال الفقهاء أنه يتحمل صلاة المأمومين ويضمن الخلل الواقع في الصلاة ماعدا الإخلال بالطهارة.
معاني السفير:
حسب المصادر اللغوية إن للسفير ستة معاني:
(أحدها) أن السفير هو الرسول وهو واسطة التبليغ.
(الثاني) أن السفير هو الوكيل والنائب في أمر خاص أو عام.
(الثالث) أنه الكاتب المختص بوظيفة المخصص لشأن مهم.
(الرابع) المصلح وهو الساعي في إخماد وثورة أو تسكين مشاغبات بين عشيرتين أو حكومتين أو شعب وحكومة.
(الخامس) المفسر المتكفل ببيان ما أشكل من الأمور الغامضة وإيضاح المواد المبهمة من الأحكام الشرعية والحقوقية السياسية الكاشف عن مخبآتها وخفاياها كشفاً مقبولاً.
(السادس) الشخص البارز بصورة ترفع التلبيس، والظاهر بصفة تزيل التشكيك كالصبح المسفر ما يهمنا من هذه المعاني هو الثاني الذي كان مسلم بن عقيل بمثل أحد مصاديقه في تأريخ الثورة الحسينية المباركة التي نحن بصدد الحديث عن أدبياتها.
فمسلم هو سفير الحسين (عليه السلام) إلى أهل العراق الذين ما فتئوا يرسلون الرسائل ويبعثون الكتب إلى الحسين (عليه السلام) أن أقدم، فإنما تقدم على جند لك مجندة، حتى اجتمع لديه منها ما ملأ الخرجين.
وإذ دخل ابن عقيل الكوفة لخمس خلون من شوال ونزل عند المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وهو من السادة الأشراف فيها، ابتدأت المهمة الدبلوماسية التي تقيض لها سفير أبي عبد الله (عليه السلام).
فشرع بعقد الاجتماعات والمؤتمرات مع الزعامات الشيعية وقادة الرأي من رجالات الكوفة مبيناً لهم الخطوط الرئيسية للنهضة الحسينية القادمة رياضها من بيت النبوة والعصمة مبشرات ولواقح، وانتهج مسلم في جميع لقاءاته واتصالاته بالقواعد الشعبية أسلوب المصارحة الجماهيرية والإعلام الصادق المرتكز على الحقائق والمسلمات فلم يغادر صغيراً ولا كبيراً يصب في مصلحة الثورة إلا بينها للناس وكشف عن دقائق أسرارها وبهذا نجح نجاحاً ساحقاً في استقطاب أبناء الأمة دون أدنى تكلف أو عناء.
ويشهد على ذلك انثيال الجماهير المسلمة عليه مقدمين فروض الطاعة والولاء والانقياد لأهدافه النبيلة وقد زاد ذلك من سروره وابتهاجه، وحدا به إلى مكاتبة الحسين وإعلامه بالتفاصيل والنتائج التي توصل إليها في مهمته.. مهيباً به التعجيل في المجيء واستثمار الموقف بقيادة الجماهير الطامحة نحو التغيير المطلوب في الوقت المناسب.
ولم يفت التاريخ تسجيل هذه الوثيقة كما لم يفته حفظ بعض المواقف المشرفة لأصحابها، فعندما قرأ مسلم كتاب الولاية والتمثيل الدبلوماسي الذي أنفذه به الإمام الحسين (عليه السلام) على أهل الكوفة واطلعوا على ما جاء فيه على لسانه من أن مسلما (أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي).. انبرى عابس بن شبيب الشاكري ليعرب عن موقفه المؤيد ويعلن عن نصرته المطلقة لإمام زمانه وقائده أمام سفيره ومندوبه الذي قدم أوراق اعتماده للتو فقال: (إني لا أخبرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم ولا أغرك بهم، والله إني أحدثك عما أنا موطن عليه نفسي، والله أجيبكم إذا دعوتهم ولأقاتلن معكم عدوكم ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله).
وقام حبيب بن مظاهر ليقول (قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل أنت عليه).
وقال سعيد بن عبد الله الحنفي وآخرون مثل هذا القول، وأقبل الناس يبايعون مسلماً حتى أحصى ديوانه ثمانية عشر ألفاً أو يزيدون، وكان ذلك قبل مقتل مسلم بسبعة وعشرين ليلة.
وكشاهد آخر على نجاح سفير الثورة في مهمته يذكر المؤرخون إن عبيد الله بن زياد لما ورد القادسية لبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وانحدر وحده فكان كلما يمر بالناس ظنوا أنه الحسين (عليه السلام) فيحيونه ويرحبون به على طول المسير وهو ساكت حتى دخل الكوفة مما يلي النجف، فاستقبله الناس هاتفين بصوت واحد (مرحباً يا ابن رسول الله) بكل عفوية، الأمر الذي يدل على أن الجماهير بكل طبقاتها كانت معلقة الأنظار مشبوبة بقائدها المنتظر وأن الأرضية كانت مهيأة لدخول المعترك تحت لواء الحسين (عليه السلام).
لذلك فإن أول إجراء قام به ابن زياد و منذ الصباح الأول ولوصوله الكوفة هو أنه جمع الناس وخطبهم محذراً من العقوبة ومهنياً بالعطية، فقال: أيما عريف وجد عنده بغية أمير المؤمنين (يزيد) ولم يرفعه إلينا صلب على باب داره.
المفضلات