قد اختلف علماء الأخلاق في إمكان إزالة الغضب بالكلية وعدمه، فقيل: قمع أصل الغضب من القلب غير ممكن، لانه مقتضى الطبع، انما الممكن كسر سورته وتضعيفه، حتى لا يشتد هيجانه، وانت خبير بان الغضب الذي يلزم إزالته هو الغضب المذموم، إذ غيره مما يكون باشارة العقل والشرع ليس غضباً فيه كلامنا، بل هو من آثار الشجاعة، والاتصاف به من اللوزام، وان أطلق عليه اسم الغضب أحياناً حقيقة أو مجازاً، كما روي عن أمير المؤمنين (ع) انه قال: " كان النبي (ص) لا يغضب للدنيا، وإذا اغضبه الحق لم يصرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له ".ولا ريب ان الغضب الذي يحصل لرسول الله (ص)لم يكن غضباً مذموماً، بل كان غضباً ممدوحاً يقتضيه منصب النبوة، وتوجيه الشجاعة النبوية. ثم الغضب المذموم ممكن الزوال، ولولا امكانه لزم وجوده للانبياء والاوصياء، ولا ريب في بطلانه.
ثم علاجه يتوقف على أمور، وربما حصل ببعضها:
(الاول) إزالة أسبابه المهيجة له، إذ علاج كل علة بحسم مادتها، وهي: العجب، والفخر، والكبر، والغدر، واللجاج، والمراء، والمزاح، والاستهزاء، والتعيير، والمخاصمة، وشدة الحرص على فضول الجاه والاموال الفانية، وهي باجمعها أخلاق ردية مهلكة، ولا خلاص من الغضب مع بقائها، فلابد من ازالتها حتى تسهل ازالته.
(الثاني) ان يتذكر قبح الغضب وسوء عاقبته، وما ورد في الشريعة من الذم عليه، كما تقدم.
(الثالث) ان يتذكر ما ورد من المدح والثواب على دفع الغضب في موارده، ويتأمل فيما ورد من فوائد عدم الغضب، كقول النبي (ص): " من كف غضبه عن الناس كف الله تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة ". وقول الباقر (ع): " مكتوب في التوراة: فيما ناجى الله به موسى: أمسك غضبك عمن ملكتك عليه أكف عنك غضبي ". وقول الصادق (ع): " أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: يابن آدم! اذكرني في غضبك اذكرك في غضبي، ولا أمحقك فيمن أمحق، وإذا ظلمت بمظلمة فارض باتنصاري لك، فان انتصاري لك خير من انتصارك لنفسك ". وقوله (ع): " سمعت أبي يقول: أتى رسول الله (ص) رجل بدوي: فقال: اني اسكن البادية، فعلمني جوامع الكلم. فقال: آمرك ألا تغضب. فأعاد الاعرابي عليه المسألة ثلاث مرات، حتى رجع الرجل إلى نفسه، فقال: لا أسألك عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول الله (ص) إلا بالخير ". وقوله (ع): " ان رسول الله (ص) أتاه رجل فقال: يارسول الله! علمني عظة أتعظ بها، فقال له: انطلق ولاتغضب، ثم عاد عليه، فقال له: انطلق ولا تغضب... ثلاث مرات " وقوله (ع): " من كف غضبه ستر الله عورته "... إلى غير ذلك من الاخبار.
(الرابع) ان يتذكر فوائد ضد الغضب، أعني الحلم وكظم الغيظ، وما ورد من المدح عليهما في الاخبار ـ كما يأتي ـ ويواظب على مباشرته ولو بالتكلف، فيتحلم وان كان في الباطن غضباناً، وإذا فعل ذلك مدة صار عادة مألوفة هنيئة على النفس، فتنقطع عنها أصول الغضب.
(الخامس) ان يقدم الفكر والروية على كل فعل أو قول يصدر عنه، ويحافظ نفسه من صدور غضب عنه.
(السادس) ان يتحرز عن مصاحبة أرباب الغضب، والذين يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقولون: نحن لا نصبر على كذا وكذا، ولا نحتمل من أحد أمراً، ويختار مجالسة أهل الحلم، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس.
(السابع) ان يعلم ان ما يقع انما هو بقضاء الله وقدره، وان الاشياء كلها مسخرة في قبضة قدرته، وان كل ما في الوجود من الله، وان الامر كله لله، لا يقدر له إلاّ ما فيه الخيرة، وربما كان صلاحه في جوعه، أو مرضه، أو فقره، أو جرحه أو قتله، أو غير ذلك. فإذا علم بذلك غلب عليه التوحيد، ولا يغضب على أحد، ولا يغتاظ عما يرد عليه، إذ يرى ـ حينئذ ـ ان كل شيء في قبضة قدرته اسير، كالقلم في يد الكاتب، فكما ان من وقع عليه ملك بضرب عنقه لا يغضب على القلم، فكذلك من عرف الله وعلم ان هذا النظام الجملى صادر منه على وفق الحكمة والمصلحة، ولو تغيرت ذرة منه عما هي عليه خرجت عن الاصلحية، لا يغضب على أحد، إلا ان غلبة التوحيد على هذا الوجه كالكبريت الأحمر وتوفيق الوصول إليه من الله الاكبر. ولو حصل لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون كالبرق الخاطف، ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً، ولو تصور دوام ذلك لأحد لتصور لفرق الانبياء، مع ان التفاتهم في الجملة إلى الوسائط مما لا يمكن انكاره.
(الثامن) ان يتذكر ان الغضب مرض قلب ونقصان عقل، صادر عن ضعف النفس ونقصانها، لا عن شجاعتها وقوتها، ولذا يكون المجنون أسرع غضباً من العاقل، والمريض أسرع غضباً من الصحيح. والشيخ الهرم أسرع غضباً من الشاب، والمرأة اسرع غضباً من الرجل، وصاحب الأخلاق السيئة والرذائل القبيحة اسرع غضبا من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، والبخيل يغاظ لبخله إذا فقد الحبة، حتى يغضب لفقد أدنى شىء على اعزة اهله وولده. والنفس القوية المتصفة بالفضيلة اجل شأنا من ان تتغير وتضطرب لمثل هذه الامور، بل هي كالطود الشاهق لا تحركه العواصف، ولذا قال سيد الرسل (ص): " ليس الشديد بالصرعة، انما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ". وإن شككت في ذلك فافتح عينيك وانظر إلى طبقات الناس الموجودين، ثم ارجع إلى كتب السير والتواريخ، واستمع إلى حكايات الماضين، حتى تعلم: ان الحلم والعفو وكظم الغيظ شيمة الانبياء والحكماء واكابر الملوك والعقلاء، والغضب خصلة الجهلة والاغبياء.
(التاسع) ان يتذكر ان قدرة الله عليه اقوى واشد من قدرته على هذا الضعيف الذي يغضب عليه، وهو اضعف في جنب قوته القاهرة بمراتب غير متناهية من هذا الضعيف في جنب قوته، فليحذر، ولم يأمن إذا امضى غضبه عليه ان يمضى الله عليه غضبه في الدنيا والآخرة، وقد روي: " انه ما كان في بني اسرائيل ملك إلا ومعه حكيم، إذا غضب اعطاه صحيفة فيها: (ارحم المساكين، واخش الموت، واذكر الاخرة)، فكان يقرأها حتى يسكن غضبه " وفي بعض الكتب الالهية: " يا ابن آدم! اذكرني حين تغضب اذكرك حين اغضب فلا امحقك فيمن أمحق "
(العاشر) أن يتذكر أن من يمضي عليه غضبه ربما قوى وتشمر لمقابلته وجرد عليه لسانه باظهار معائبه والشماته بمصائبه، ويؤذيه في نفسه وأهله وماله وعرضه.
(الحادي عشر) أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الغيظ والغضب فان كان خوف الذلة والمهانة والاتصاف بالعجز وصغر النفس عند الناس، فليتنبه ان الحلم وكظم الغيظ ودفع الغضب عن النفس ليست ذلة ومهانة، ولم يصدر من ضعف النفس وصغرها، بل هو من آثار قوة النفس وشجاعتها واضدادها تصدر من نقصان النفس وخورها. فدفع الغضب عن نفسه لا يخرجه من كبر النفس في الواقع، ولو فرض خروجه به منه في اعين جهلة الناس فلا يبالى بذلك، ويتذكر ان الاتصاف بالذلة والصغر عند بعض اراذل البشر اولى من خزي يوم المحشر والافتضاح عند الله الملك الأكبر، وإن كان السبب خوف ان يفوت منه شيء مما يحبه، فليعلم ان ما يحبه ويغضب لفقده اما ضروري لكل احد، كالقوت والمسكن واللباس وصحة البدن، وهو الذي اشار إليه سيد الرسل (ص) بقوله: " من اصبح آمنا في سربه، معافى في بدنه، وله قوت يومه، فكأنما خيرت له الدنيا بحذا فيرها ". أو غير ضروري لأحد، كالجاه والمنصب وفضول الاموال. أو ضروري لبعض الناس دون بعض، كالكتاب للعالم، وادوات الصناعات لأربابها. ولا ريب ان كل ما ليس من هذه الاقسام ضروريا فلا يليق ان يكون محبوبا عند أهل البصيرة وذوى المروات، إذ مالا يحتاج إليه الإنسان في العاجل لابد له من تركه في الآجل، فما بال العاقل ان يحبه ويغضب لفقده وإذا علم ذلك لم يغضب على فقد هذا القسم البتة. وأما ما هو ضروري للكل أو البعض، وان كان الغضب والحزن من فقده مقتضى الطبع لشدة الاحتياج اليه، إلا أن العاقل إذا تأمل يجد أن ما فقد عنه من الاشياء الضرورية ان امكن رده والوصول إليه يمكن ذلك بدون الغيظ والغضب أيضاًً، وان لم يمكن لم يمكن معهما أيضاً. وعلى أي حال بعد التأمل يعلم أن الغضب لاثمرة له سوى تألم العاجل وعقوبة الآجل، وحينئذ لا يغضب، وان غضب يدفعه عن نفسه بسهولة.
(الثاني عشر) أن يعلم ان الله يحب منه إلا يغضب، والحبيب يختار ألبتة ما يحب محبوبه، فان كان محباً لله فليطفىء شدة حبه له غضبه.
(الثالث عشر) أن يتفكر في قبح صورته وحركاته عند غضبه، بأن يتذكر صورة غيره وحركاته عند الغضب.
المفضلات