الاستغلال الواعي للمناسبات

لشخصية الرسالي والذي تمثل الحوزة العلمية الشريفة بعلمائها وفضلائها وطلبتها المصداق الأوضح له ـ ثلاثة أبعاد :
1. البعد الأخلاقي : ونعني به الجهاد المتواصل في تهذيب النفس وضبط شهواتها وأهوائها وتنقية القلب من الرذائل وتحليله بالفضائل والعمل على إخلاص النية لله تبارك وتعالى حتى يكون هو الهدف ولا يرى شيء إلا ويرى الله قبله وبعده وفيه ولا يجعل لغيره تبارك وتعالى عليه سبيلا وحينئذ تذوب أنانيته وتسمو أهدافه ولا يبقى مكان في قلبه لغير الله تبارك وتعالى فتنضبط سيرته وتجري الحكمة على لسانه ويكون مصدر إشعاع وهداية لغيره .
2. البعد العلمي : فلابد من امتلاء عقله بالعلوم والمعارف التي يحتاجها في أداء مسؤولياته ووظيفته في الإصلاح والهداية خير قيام وتشمل الفقه والأصول والتفسير والتاريخ وعلوم العربية والأدب والمنطق والفلسفة والحكمة والعقائد وعلم الكلام ويضم إليها الثقافة العامة والعلوم العصرية ويتفاوت المقدار المطلوب لدى الرسالي بحسب موقعه فان المطلوب من خطيب المنبر غير ما يشترط في وكيل المرجعية الشريفة وهكذا يرتقي المطلوب حتى يصل درجة الاجتهاد في القائد وولي أمر المسلمين .
3. البعد الحركي والاجتماعي : بمعنى انه يحمل وعياً اجتماعياً وتفاعلاًمع همومالأمة وآلامها وآمالها وما تحيط بها من تحديات والوسائل والأدوات المناسبة لمواجهة هذه المشاكل والتحديات فيمتلك رؤية مرحلية ( تكتيكية ) وثابتة ( استراتيجية ) لكيفية الارتقاء بالمجتمع وإصلاحة وضمان سعادته وتلبية احتياجاته وحمايته من الانحراف .
والعقيدة هي محور هذه الأبعاد بل أن هذه الأبعاد نشاطات وأوجه لها فالعقيدة فيها جنبة أخلاقية تؤثر في سلوك الإنسان وتوجهه فهذا هو البعد الأول كما أن لها جانباً علمياً يتضمن الأدلة على صحتها ورد الشبهات والإشكالات الموجهة لها سواء على مستوى الدين أو الذهب وتقنين أفعال الفرد وفق الشريعة المعبر عنه بالفقه وسائر مقدماته وأدواته فهذا هو البعد الثاني كما أنها تنظم علاقات الأمة فيما بينها ومع الأمم الأخرى وتوزع وظائف أفرادها وتشعرهم جميعاً بالمسؤولية فهذا هو البعد الثالث .


ورغم أن مسؤولية القائمين بشؤون الحوزة الشريفة هي تربية الشخصية الرسالية على جميع الأبعاد وبعلاقة مطردة أي انه كلما ارتقى مستواه العلمي لابد أن يرتقي معه وبنفس المقدار بمسؤوليته الأخلاقية ( المعبر عنها فقهياً بالعدالة ) والاجتماعية فالعدالة المطلوبة في الشهود ليست كالمطلوبة في إمام الجماعة وهذه ليست كالمطلوبة في مرجع التقليد أو ولي أمر المسلمين الذي بيده أزمة أموال ونفوس وأعراض ملايين المسلمين وكذا الوعي الاجتماعي يزداد عمقاً وتركيزاً كلما تقدم الموقع ؛ لكن المناهج المتداولة لا تتعرض للبعدين الأول والثالث وتكتفي بالتربية العلمية فقط بل هي غير مستوعبة للحاجة حتى في هذا المجال فلا تجد فيها دروساً إلزامية في التاريخ والتفسير والحكمة وعلوم القرآن والعلوم العصرية وقد تفاقمت المشكلة في العقود الأخيرة وبدأ النقص واضحاً وظهرت آثاره السلبية مما حدا بالعلماء الواعين المخلصين ومنهم السيدان الشهيدان الصدران الأول والثاني (قدسسريهما ) إلى معالجة هذا النقص فعلى الصعيد العملي فكر الأول (قدس سره) في وضع شروط لقبول الطلبة في الحوزة بحيث يكونون حملة شهادات أكاديمية وذوي ذهنية متفتحة وثقافية جيدة وإدخال العلوم العصرية في مناهج الدراسة وإضافة المناهج الضرورية التي تفتقدها الدراسات المعروفة ونفذ الثاني (قدس سره) هذا المشروع .
أما البعدان الآخران فحاولا (قدسسريهما ) تغطيتهما باستثمار المناسبات الدينية لإلقاء محاضرات في الأخلاق والوعي الاجتماعي ولكن الاتجاه الأكثر وضوحاً في محاضرات السيد الأول(قدس سره) هو الوعي الحركي والاجتماعي عكس الثاني (قدس سره) حيث غلب على محاضراته في المناسبات الدينية الموعظة والأخلاق وربما كان ذلك ناشئاً من تشخيصهما المختلف لحاجة الحوزة والمجتمع .
وهذا البحث للسيد الأول(قدس سره) يمثل خطوة مهمة في بناء الوعي الاجتماعي للحوزة وللأمة معاً وقد عبر عن هذا الاستغلال الواعي للمناسبات بقولهِ ( ومن الطبيعي لنا أن نلتقي مع هذا اليوم ـ وهو يوم ميلاد أمير المؤمنين ( u) ـ وغيره من أيامهم العظيمة التي تمر بنا كل عام التقاءاً روحياً مخلصاً، والتقاءاً فكرياً واعياً ) لكنه (قدس سره) في هذا البحث أشار إلى الالتقاء الثاني دون الأول فلم يتطرق إلى سعيهم ( عليهم السلام ) في بناء ذواتهم وتكامل شخصياتهم وتعميق صلتهم ( عليهم السلام ) بالله تعالى ومعه حق باعتبار انه (قدس سره) عنون بحثه بدور الأئمة في حياة الأمة أي العمل الاجتماعي لهم ( عليهم السلام ) وليس مطلق الأدوار المشتركة ولكنني استغل هذه الفرصة للإشارة إلى نقصٍ غالباً ما يتوفر في تفكير قادة الوعي الإسلامي حيث ينهكون في العمل الاجتماعي وتربية الناس عليه ويتركون بناء الأمة أخلاقياً وكانت من نتائج ذلك فشل الكثير في المواقف الحاسمة أو سقوطهم في رذائل الأنانية وحب الحياة والعنوان والتحزب والفئوية والتقاطع في العمل مع الأجرين إلى حد المعاداة والخصومة .
ولكي يكون البحث تاماً علي أن أضيف إليه مطلبين :
الأول : أخلاقي في إعداد المتصدي للمسؤولية الاجتماعية نفسه لهذا الموقع العظيم باستقراء واقع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
الثاني : عقائدي في بيان أصل الإمامة والتعريف بها وحدودها وصفات الإمام وشروطه .

لكنني سأترك الأول إلى سلسلة محاضرات ( الأسوة الحسنة في بناء الذات إصلاح المجتمع ) المستفادة من استقراء سيرة رسول الله ( صلى الله عليه واله وسلم ) وإلى المحاضرات الأخرى التي طبعت في كتاب ( من وحي المناسبات ) وكتاب ( نحن والغرب ) خصوصاً محاضرة ( عناصر شخصية المسلم في آثار أهل البيت ( عليهم السلام ) ) .
وأترك الثاني إلى الكتب العقائدية المتخصصة وهي كثيرة خشية الإطالة وسأكتفي بإذن الله تعالى بشرح وتفصيل المطالب التي تعرض لها السيد (قدس سره) في اصل البحث .
----------------------------
مستل من كتاب (دور الائمة في حياة الامة الاسلامية) لسماحة ولي امر الامة المرجع الديني آية الله العظمى الشيخ محمد اليعقوبي (دام ظله الشريف) .