أدبيات الشيخ ...
لشعر عند الدكتور الوائلي احد السمات البارزة في شخصيته، فقد تحرك من خلال الشعر على الكثير من القضايا والشؤون السياسية والاجتماعية، وعالجها معالجة إسلامية واعية. وقد تنوعت قصائد الفقيد في أغراضها بين مدح أهل البيت عليهم السلام ومناجاتهم، مرورا بواقعة كربلاء وما حضيت به من عناية بالغة في شعر الوائلي، إلى فلسطين ولبنان والصراع العربي الصهيوني، و وصولا للقضايا الوطنية في العراق وغيرها من القضايا المعاصرة. كلها كانت أغراض تعرض لها الفقيد في شعره الذي يتميز بفخامة الألفاظ وبريق الكلمات وإشراقه الديباجة، فهو يعني كثيراً بأناقة قصائده، وتلوين أشعاره بريشة مترفة.
في ما يلي مختارات متنوعة من شعر المرحوم الدكتور الوائلي:


آخر قصيدة للفقيد الراحل سماحة الدكتور الشيخ أحمد الوائلي قدس الله روحه الطاهرة عند مرضه بمرض في الرئة تحت عنوان (( رسالة للحسين (ع)) -


رسالة للحسين (ع)
أيهـا الرمـلة التي حضـنت جـسم حسينَ ولفعـته رداءا
بلغي عني السلام حسيناً واحمليني استغاثةً ونداءا
واسكبيني دمعأ على رملك الأسمر يجري محبة و ولاءا
وامزجـيني بآهـة نفثتـها زينـب يوم قاسـت الأزراءا
وبآهات نسوة منذ يوم الطف الآن الهبت كربلاءا
واخبريه بأنني لم اعد اقوى على حمل ما اردت اداءا
لم اعد ذلك النعي الذي يحمل ذكراه لوعة وشجاءا
ويناغي بوجده ساجعات كم حملن الحنين والاصداءا
واواسي به النبي واشجي لعلي واسعد الزهراءا
عشرات السنين وهو بثغري نغم عاش يسحر الاجواءا
نغمٌ يحمل البطولة والامجاد في كل ما بها والفداءا
ويحث الدنيا لتزرع اغلى تضحيات وتحصد الآلاءا
رغم ان المصاب شئ يفوق الوصف وقعاً ويعجز الاحصاءا
فثمار السراء لا تتآتى دون ان يحتسي الفتى الضراءا
سيدي، انني إليك انتماء ولو اني لا ابلغ الانتماءا
فطموحات الطين والحمأ المسنون هيهات تبلغ الجوزاءا
غير اني ادعي بكم وأُمني النفس ان تسعد المُنى الادعاءا
فأعدني إلى رحابك يا من يحمل النُبل كُله والوفاءا
واسئل الله يا دماً بارك الأرض وارضى بما توخى السماءا
سَلهُ دفع السُقام عني بلطف منه عم الدنيا ويشفي الداءا
فيداه مبسوطتان لمثلي ينفق الفضل فيهما كيف شاءا
يا حسينُ يا من شدوتُ به صبحاً وناجيته بوجدي مساءا
لك مني رسالة من أنينٍ في تضاعيفه سكبتُ الرجاءا
أتقرّى بها جداكَ مُلحاً وأُرجي من الحضور الدُعاءا
وأنادي أي من تخذت ضحايا سُلّم المجد سادةً شهداءا
إن أجواءنا ظلامٌ فَعلِّمنا بأن نسرج الدماءَ ضياءا
وتقبل منا مواسمَ قامت لتواسي الأئمة الأصفياءا
وأَعدنا للصاعداتِ وأهمنا بأن نحمل الحسين لواءا



في رحاب المصطفى (ص) - 1976م
أتيتُك بالأشـواق.. أطفـو وأرسبُ **** وكُـلّيَ آمـالٌ، وكُلُّـك مـَطلبُ
ملـكتَ على بُعد الـديار مشاعري ***** فأنتَ إلى قـلبي من الفكر أقربُ
إلى أن دنـت مِنّي الدّيارُ وأصبحت ***** قبابُك في عـيني تَهِـلُّ وتُعجِبُ
تلاشت حدودي في حدودِك والهوى ***** تُـوَحَّـد أشـتاتٌ بـه وتُـذَوَّبُ
فعُدتُ ومـا إلاّك عنـد مشـاعري ***** فأنت بها فِكرٌ، ودِيـنٌ ومـذهَبُ
* * *
ولمّا وطأتُ المِسْكَ مِن أرض طِيبةٍ ***** وهَبّ عبـيرٌ مِن شذى الخُلدِ أطيبُ
وأقحمتُ طَرْفي لُجّةَ النـور لَوّحتْ ***** شـمائلُ أشـهى مِن خميلٍ وأعذبُ
تخيّلتُ عشـراً مـِن قرونٍ وأربعـاً ***** ستُبعد طَرفي عن رُؤاك.. وتَحجِبُ
ولكنْ رأيتُ الأمسَ عندي بسـحرهِ ***** ثـريّاً.. كما يهوى الجلال ويطلبُ
كأنّ السنيـن الذاهبـاتِ وبُـعدَهـا ***** مَـرايا بـها تـدنو إليَّ وتـَقربُ
ولملمتُ طَرفي مِن سَـناك ولمعـهِ ***** كذا الشمسُ تعشو العينُ منها وتتعبُ
وراودتُ فكري أن يعيـك.. فـرَدَّه ***** بـأنّك أوفى مِـن مـداه.. وأرحبُ
فآويـتُ للـذكرى يمـسّ سلافَهـا ***** فمي.. فـإذا رِيـقي لهـا يتـحلّبُ
وهوّمـتُ للأصداء تُسكر مسمـعي ***** بأنغامها.. فـالدهرُ هيمانُ مُطـرَبُ
* * *
سماحاً أبـا الزهراءِ أن جئتُ أجتلي ***** سَناك.. وأستهـدي الجلالَ وأطلبُ
إذا لم تُؤمِّلْ فيـضَ نورك ظُلمـتي ***** فمِن أين يرجو جلوةَ النورِ غيهَبُ ؟
وإن لم يَلـجْ ذَنْـبي ببـابك خاشعـاً ***** فمِن أين يرجو رحمةَ اللهِ مُذنبُ ؟!
ومِثْلُك مَن أعطى، ومِثْلي مَنِ اجتدى ***** فـإنّ السما تنهلُّ والأرضُ تشربُ
أهَبْتُ بنـقصي فاستجـار بكـامـلٍ ***** إلى ذاتـه يُنـمى الكمـالُ ويُنسَبُ
وأغرى طِـلابي أنّ فيـضَ مَعيـنهِ ***** مدى الدهر ثَرٌّ.. ما يَجِفُّ ويَنضَبُ
وعفّرت خـدّي في ثرىً مسّ عفرَه ***** لجـبريلَ مِن جنحَيهِ ريشٌ مُزَغَّبُ
وفيـه مـحـاريـبٌ لآل مـحمّـدٍ ***** بـهنّ ضراعـاتٌ إلى الله تُنصَبُ
وآثـارُ أقـدامٍ صغـارٍ ومَهْـجَـعٌ ***** إلى الحسـنَينِ الزاكيـينِ ومَلعبُ
وصوتُ رَحى الزهراء تَطحنُ قُوتَها ***** إلى جِلْدِ كبـشٍ حيث تجلسُ زينبُ
رؤىً سوف يبقى الدهر يروي جلالَها ***** وتبقى على رغم البسـاطة تأشبُ
* * *
عَهِدتُـك والقـرآن نـورٌ وحكـمةٌ ***** يَشـدُّ إليـه التائـهين.. ويَجـلِبُ
وأنت عطاءٌ.. كلّما احتـاجتِ الـدُّنا ***** إلى مكـسبٍ منه تَوَلَّـد مكـسبُ
وأنـت طُمـوحٌ.. نـال كلَّ مُمـنَّعٍ ***** ولم يُرضِه من غاربِ النجم مَنكبُ
وأنت شموخٌ.. في النـوائب مُرقِـلٌ ***** عـلى عَـزَماتٍ كـلُّهُـنّ تـَوَثُّبُ
وأنت إذا مـا التـاثَ رأيٌ إصـابةٌ ***** مُسَدّدةٌ عن صائبٍ الرأي تُعـرِبُ
فمـا بـالُنـا لا نجـتليـك بتَيهـِنا ***** وأنت لنا نبعٌ وروضٌ مخصّـَبُ!
* * *
فَهَبْـنا أبا الـزهراء قُوتـاً، فلم يَعُدْ ***** بمِـزودِنا ما يُستـطابُ ويَعـذُبُ
ورُدَّ لنـا هـذا الأصـيلَ لفجـرِنا ***** إلى النبعِ يَهمي النورُ ثَرّاً ويسكبُ
وسَدِّدْ خُطـانا بالطـريق.. فدربُـنا ***** طـويلٌ على أقـدامنـا مُتَشـعِّبُ



إلى أبي تراب - 1977م
غالى يسارٌ واستخفَّ يمينُ بك يا لكهنك لا يكاد يبين
تُجفى وتُعبد والضغائن تغتلي والدهر يقسو تارةً ويلين
وتظلّ أنت كما عهدتُك نغمة للآن لم يرقى لها تلحين
فرأيت أن أرويك محض رواية للناس لا صور ولا تلوين
فلا أنت أروع إذ تكون مجرداً ولقد يضر برائع تثمين
ولقد يضيق الشكل عن مضمونه ويضيع داخل شكله المضمون
إني أتيتك أجتليك وأبتغي ورداً فعندك للعطاش معين
وأغض عن طرفي أمام شوامخ وقع الزمان وأسهن متين
وأراك أكبر من حديث خلافة يستامها مروان أو هارون
لك بالنفوس إمامةٌ فيهون لو عصفت بك الشورى أو التعيين
فدع المعاول تزبئر قساوةً وضراوةً إن البناء متين
*****
أأبا تراب وللتراب تفاخر إن كان من أمشاجه لك طين
والناس من هذا التراب وكلهم في أصله حمأ به مسنون
لكن من هذا التراب حوافر ومن التراب حواجب وعيون
فإذا استطال بك التراب فعاذرٌ فلأنت من هذا التراب جبين
ولئن رجعت إلى التراب فلم تمت فالجذر ليس يموت وهو دفين
لكنه ينمو ويفترع الثرى وترف منه براعمٌ وغصون
*****
بالأمس عدت وأنت أكبر ما احتوى وعيٌ وأضخمُ ما تخال ظنون
فسألت ذهني عنك هل هو واهم فيما روى أم أن ذاك يقين
وهل الذي ربى أبي ورضعت من أمي بكل تراثها مأمون
أم أنه بعد المدى فتضخمت صور وتخدع بالبعيد عيون
أم أن ذلك حاجة الدنيا إلى متكامل يهفو له التكوين
فطلبت من ذهني يميط ستائراً لعب الغلوُّ بها أو التهوين
حتى أنتهى وعيي إليك مجرداً ما قاده الموروث والمخزون
فإذا المبالغ في علاك مقصر وإذا المبذر في ثناك ظنين
وإذا بك العملاق دون عيانه ما قد روى التاريخ والتدوين
وإذا الذي لك بالنفوس من الصدى نزر وإنك بالأشد قمين
*****
أأبا الحسين وتلك أروع كنيةٍ وكلاكما بالرائعات قمين
لك في خيال الدهر أي رؤى لها يروي السَّنا ويترجم النسرين
هن السوابق شزبا وبشوطها ما نال منها الوهن والتوهين
والشوط مملكة الأصيل وإنما يؤذي الأصائِل أن يسود هجين
فسما زمان أنت في أبعاده وعلا مكان أنت فيه مكين
*****
آلاؤك البيضاء طوقت الدُّنا فلها على ذمم الزمان ديون
أفق من الأبكار كل نجومه ما فيه حتى بالتصور عون
في الحرب أنت المستحم من الدِّما والسلم أن التين والزيتون
والصبح أنت على المنابر نغمة والليل في المحراب أنت أنين
تكسوا وأنت قطيفةٌ مرقوعةٌ وتموت من جوع وأنت بطين
وترق حتى قيل فيك دعابة وتفح حتى يفزع التنين
خلق أقل نعوته وصفاته أن الجلال بمثله مقرون
*****
ماعدت ألحو في هواك متيماً وصفاتك البيضاء حورٌ عين
فبحيث تجتمع الورود فراشة وبحيث ليلى يوجد المجنون
وإذا سئلت العاشقين فعندهم فيما رووه مبرر موزون
قسماً بسحر رؤاك وهي إلية ما مثلها فيما أخال يمين
لو رمت تحرق عاشقيك لما ارعووا ولقد فعلت فما ارعوى المفتون
وعذرتهم فلذى محاريب الهوى صرعى ودين مغلق ورهون
والعيش دون العشق أو لذع الهوى عيش يليق بمثله التأبين
ولقد عشقتك واحتفت بك أضلعي جمراً وتاه بجمره الكانون
وفداء جمرك إن نفسي عندها توق إلى لذعاته وسكون
*****
ورجعت أعذر شانئيك بفعلهم فمتى التقى المذبوح والسكين
بدر وأحد والهراس وخيبر والنهروان ومثلها صفين
رأس يطيح بها ويندر كاهل ويد تجذ ويجذع العرنين
هذا رصيدك بالنفوس فما ترى أيحبك المذبوح والمطعون
ومن البداهة والديون ثقيلة في أن يقاضى دائن ومدين
حقد إلى حسد وخسة معدن مطرت عليك وكلهن هتون
راموا بها أن يدفنوك فهالهم أن عاد سعيهم هو المدفون
وتوهموا أن يغرقوك بشتمهم أتخاف من غرق وأنت سفين
ستظل تحسبك الكواكب كوكباً ويهز سمع الدهر منك رنين
وتعيش من بعد الخلود دلالةً في أن ما تهوى السماء يكون



غرس أبي تراب
في مجالي نهج البلاغة حوُر***شهد الأفق إنهن بدورُ
آخذات باللب مبنى ومعنىً***فالمعاني مضيئة والسطورُ
هي دنيا فكر بها الأرض تزهو***بالبراعات والسماءُ تمورُ
صعدت عندها الروائع فالأنجم***درب بأفقها وعُبورُ
ساحرات الرؤى فليس ببدع***أن من يلتقي بها مسحور
وسُلاف من خالها دون أن يشرب***يغدو وذهنه مخمور
أفهل للملام معنى لأنف***أخذته بما تنث العطور؟
وهل العاشقون إلاّ سبايا***وأخو العشق مرغم مقهور؟
قلت للسائلين والقلم التافه***يَفتّن فيه أفك وزورُ
وضح الانتماء بالنهج فليسكت***زعم يخطه موتور
إنّه ابن القرآن والابن كالأب***وإن لجّ حاقد مأجور
يتمادى فينكر البدهيات***فحجر بوعيه محجور
وغباء أن لا يرى الأصل بالفرع***وبالفرع تستبين الجذور
فوراء الشعاع لا بد شمس***ووراء النهج الشذي زهورُ
غير أن الأنغام يسأل عنها***صادحات الخميل إلاّ اليعفور
قممُ الفكر في كتاب علي***شاهقات تنحط عنها الصقور
نائيات بها الشوارد إلا***لجناح على الصعود صبور
وعروس الأفكار إلاّ على ذهن***حصيف جمالها مستور
فإذا لم يسدُ الذهن إلهام***فلا يجتلي الخفاء ظهور
هو قانون الضوء من دونه***الأعين لا يستجيب فيها النور
فأعني لأجتلي إن طرفي***عنك من شدة السنا محسور
إن يك النهج وهو نحوك دربٌ***فيه ما قد تقلدته النحور
فعلى القطع أنت مقلع در***جانباه المنظوم والمنشور
فكرٌ حرٌ وديباجة غراً***ونبرٌ مموسق وأمورُ
ومعان من خدرها سافرات***ومعان تضمهن خدور
إنّه النهج محض باب إلى حقل***به الخصب والجنى موفورُ
أنت فيما به كتاب وسيف***وهزار يشدو وليث هصور
ونبي البيان مثل نبي الشرع***تشفى بما يقول الصدور
يا خميل الفصحى وروض المعاني***وسط صحراء بالهجير تفورُ
إن يك النهج ما لفظت فماذا***أنت يا فلتة روتها الدهور
يا تسابيح ناسك ما تعاطى***دنس الشرك بيته المعمور
يا صدى راهب يهز حشايا***الليل والنجم في السماء يغور
أنت معنى من وسعه كل لفظ***فيه ضيق عن حجمه وقصور
اغتفر أيّها الوحيد فللإلحاد***حجم تضيق عنه الكسور
سيدي يا أبا تراب يتيه***الغرس فيه وتشرأب الجذور
أنا فيما ينمى إليك وما تحكيه***عن وجهك الرؤى مأسور
هزني أنني المهموم في دنياك***حتى يفيق مني الشعور
وتصلي مشاعري عند محراب***به تدمن الصلاة العصور
أنا ما غبت عنك يوماً ولكن***أثملتني الرؤى فدب الفتور
وبمحراب العشق من عاش يدري***أن من ذاب بالهوى معذور
إنّه ديدن المحبين أدنى***ما يلاقوه أن يغيب الحضور
قد سألتُ الزمان يوماً لماذا***عنك يلوي بوجهه ويحور
يتحاشى النبع المذال ويحسو***وشلاً ما تذوقته الثغور
فكأن العيون ما بين مراءها***وما بين نبيك الثر سور
فتعرفت منه أنك سنخ***ليس من سنخهم فكان النفور
إن كل الرياح جنس ولكن***عُدَّ منها الصبا ومنها الدبور
قد قضى الله أن بالأرض فيروزاً***وفيها جنادلٌ وصخور
وقضى أن معشر الجُعَل المنتن***بالطبع عشقه البعرور
وبأن الفراش يعشق حسنَ***الضوء حتى يموت وهو يدورُ


يتبع . . .