ربما يكون سؤالي متجاوزاً الخطوط الحمراء، لكنني أرى أنه من المناسبة أن أسأل الشاعر الذي تجاوز كل الخطوط بهذا السؤال وآمل أن يصل سؤالي إلى شاعرنا ولو لم يجب عليه: أحمد مطر..في شعره ثار وتمرد وعاش مأساة الشعوب العربية المغلوبة على أمرها..هاجم الحكومات،هاجم الغرب، أجّج النار في صدر كل عربي.. ثمّ ماذا ؟
القصة لم تنته بعد.. أحمد مطر يتمرغ في نعيم الغرب، يأكل من شهد الحكومات.. أي أنه باختصار يعيش في الجنة ويدعو الناس إلى العيش في النار.. أبعد الناس عما يدور في شعر أحمد مطر هو أحمد مطر نفسه ..والسؤال.. لماذا كل هذا ؟
- ثمّ ماذا ؟!
إذا كان هذا الذي عدّدت صنائعه في مطلع كلامك هو أنا، فذلك يعني أنني قمت بما أراه واجباً عليّ، بقدر ما أستطيع، وعلى أفضل وجه. إذن لم يبق لي، بعد هذا الشوط الطويل، إلاّ أن أعيد السؤال إليك أنت : ثمّ ماذا ؟
أم أنك وأمثالك تحسبونني القائد العام للقوات العربية المسلحة، وتستغربون من طول تردّدي عن تحريك الجحافل الباسلة ؟!
سأفترض فيك حسن النية، وعلى ذلك سيمكنني أن أتساءل عمّا إذا كان ضميرك قد أسلمك إلى راحة النوم، بعد أن اتهمتني، دون بيّنة، في أعزّ ما أملك: عفّة يدي وضميري ؟
إنني لم أقصد (نعيم الغرب) هذا سائحاً، بل إنّ زبانية جهنم القائمين حولك هم الذين اشتركوا جميعاً في ركلي إليه، ولو تُرك لي الخيار لوجدتني معك، الآن، متشبثاً بمائدة الجمر حتى النفس الأخير .
ولو كنت لأدعو على أحد بالسوء، لدعوت لك بمثل هذا "النعيم" الذي أحياه، فلعل في تذوّقك إيّاه كما أتذوّقه أنا، ما يحملك على التريّث قليلاً قبل إلقاء الكلام على عواهنه .
ثمّ أمن الإنصاف في شيء أن يقال عن مثلي: ( يأكل من شهد الحكومات ) ؟!
إنّ قائل هذا لم يُخطئ في حقّي فقط، بل في حق المعلومات العامة أيضاً، ذلك أنه يفترض أنّ الحكومات تمنح الشهد، مما يعني أنه لا يعرف الفرق بين النحل والعقارب !
للمرء أن يغضب مني، أن يكرهني، أن يرفضني ويرفض شعري، لكن ليس له أن يقول عني هذا، لأنه افتراء مفضوح ومضحك لا يمكن أن يصدّقه أحد، ولا يمكن لأية محكمة في الأرض إلاّ أن تنزل العقاب بقائله .
إني لأتساءل بدهشة: إذا كنت أنا من يوصف بهذا الوصف، فماذا سيبقى لديك لوصف المرتزقة إذن ؟!
على أية حال، إنني أتحدّاك وأتحدّى الحكومات جميعها أن تأتوا بدليل على هذا .. أمّا قبل ذلك فينبغي للعاقل الحصيف أن يعضّ على لسانه بكلّ قوة، إذا أغراه بتوجيه مثل هذا الكلام إليّ .
ثمّ بأي مقياس للأطوال تحدّد بُعدي " عمّا يدور " في شعري ؟
وماذا يُقتَرح عليّ أن ألقى لكي أكون قريباً منه ؟
على قائل هذا أن ينوّرني أولاً : كم عاماً تشرّد ؟ وكم مرّة واجه تهديداً حقيقياً بالقتل ؟ وكم مرضاً عصيّاً أصابه ؟ والأهم من كل هذا.. كم جثّة قتيل مظلوم من أهله احتمل واحتملوا دفعها ثمناً لما يؤمن ويؤمنون به ؟
وحتى إذا لم أذق أيّاً من هذه المرارات، فهل هذا يعطي الحقّ لأحد بإغلاق فمي عن وصف ما أراه وأشعر به من مآسي الآخرين ؟
ومرّة أخرى.. إنني لم أدعُ الناس من (جنتي) ، بل أنفقت عشرين عاماً من عمري هناك في (النار) نفسها، أدعو الناس إلى تحويلها إلى (جنّة) .. فلماذا لم تنهضوا لتعلنوا رفضكم إبعادي ؟ لماذا تركتموني وحيداً، لأنفى إلى هنا بالقوّة ؟ ثم لماذا رحتم، بعد ذلك، تعيبون عليّ وجودي في المنفى ؟
إذا كان لا يريحكم وقوفي على الأرض ولا تعلّقي بالسماء، فأين تريدونني أن أكون، بالضبط، لكي ترتاحوا ؟!
هاهي الجنة فاتحة أبوابها، فافعلوا مثلي لكي ترسلكم تلك الحكومات إليها، وتغدق عليكم من شهدها، أو إذا شئتم، اقطعوا تذاكر وتعالوا. إنّ رضوان لم يغلق الأبواب، ومالك لا يمنع أحداً من التمرّغ في (النعيم) .
وإن كان مجمل الأمر، يا أثباج، هو أنك من غير المؤمنين بما أقول، فإنّ بإمكانك مقاطعة حملتي، وعدم الإصغاء إلى خطاباتي، والامتناع عن انتخابي، وتنتهي المشكلة .
وعندئذ، سيمكنك الرجوع إلى سطور نقمتك التي سمّيتها أسئلة، لإعادة طرح السؤال على نفسك أنت، وبحق هذه المرّة : لماذا كلّ هذا ؟
البعض يقول إنك لا تؤمن بما تقول، وإنما تقول ما يريده الناس لكسب الشهرة والمال معاً، أي بمعنى آخر أنت لست صاحب قضية بالدرجة الأولى .
- بل أنا، بكل المعاني، صاحب قضية بالدرجة الأولى والأخيرة، وإيماني بما أقوله مستقر في كلّ خلية مني، وما أقوله إنّما هو ما أريده أنا قبل كلّ شيء .
لكن لأنني واحد من هؤلاء الناس الذين ذكرهم البعض "المبهم"، ولأنني أعيش مآسيهم نفسها، فإن ما أقوله لا بد أن يكون، بالضرورة، معبراً عن معظمهم .
دع ذلك "البعض" ينتظر قليلاً، والتفت إليّ..إنني أطالعك باسمي الصريح ووجهي المعلن، فاسمع منّي .
أتعتقد أنّ شيئاً في الدنيا أغلى عندي وأحبّ إليّ من أن ألوذ بظلّ أبي، أو أن أستروح عطر أمّي، أو أن أتقاسم مع إخوتي ضحكة صافية في لحظة أمان ؟
ما الذي حملني على ترك كنوز كهذه، يحسدني قارون عليها، لأتجاذب أطراف الغربة والخوف والمرض والتهديد، وأفرغ حصّالة عمري، على جمر النكبات، من ثمانية وعشرين عاماً هي الأزهى والأجمل في حياة أيّ إنسان ؟
الشهرة ؟!
أما كان بوسعي أن أطلبها بالسلامة وقلّة الجهد ؟
هل تعوزني الكفاءة، مثلاً، لنزع خرقة أمسح بها على ظهور هذه الحكومات ال***ة؟
وهل أحتاج إلى جهد لكي أؤلّف (كمننا) على شرف هذا الزمان الكمنني ؟
إذا كانت الشهرة مطلبي حقاً، فأيّ أحمق أنا إذ أسعى إلى أضيق آفاقها على حدّ الشفرة، فيما يتربع عليها من دوني – بخبطة طبلة – زميلنا المناضل " شعبان عبد الرحيم" الذي يكره المقاول .. ويحب المَعاوِل ؟!
إذا كنتُ معروفاً إلى حد ما، فليس لأنني أسعى لأن أكون معروفاً، ولكن لأنني أصرّ، بوسيلتي الخاصّة البسيطة، على إيصال الكلمة الحرة الصادقة إلى أبعد رأس مغمور بضلالات الحكام ومرتزقتهم.. وعندئذ لابد لمن تصل إليه الكلمة أن يعرف من المسؤول عنها .
وأجمل ما في هذه المعرفة أنها قائمة على التشارك الفعلي في الهموم والتطلعات، لا على الصيت الفارغ .. وإلاّ فكم من مشهور ترى اسمه مقرراً في المطبوعات، وصورته مفرودة على الشاشات، دون أن يملك القارئ من كلامه حرفاً واحداً ؟
أهكذا أنا ؟
لعلك تقول إنّ هناك قطيعة بين وسائل الإعلام وبيني؟ هذا صحيح ، وهو يعني أن ما أقوله يغلق باب الشهرة بدلاً من أن يفتحها، وهذا بحد ذاته كافٍ للرد على ذلك " البعض " .
لكنّ هناك جانباً آخر لهذه المسألة، أعتقد أن الكثيرين يجهلونه، ولذلك ينبغي لي هنا أن أجهر به ، لكي يعلم من لا يعلم.
إنّ قرار القطيعة بيني وبين وسائل الإعلام ليس بيد تلك الوسائل .. بل بيدي أنا .
فإذا كانت تقاطعني بالمواسم، فأنا أقاطعها بالدهر. إنها تسعى إليّ أحياناً، لكنّني لا أسعى إليها أبداً. وحتى إذا سارعت هي إلى فتح صفحة جديدة معي، فإنني سرعان ما أختم كتابها كلّه بالشمع الأحمر .
تأتيني، باستمرار، دعوات كثيرة وملحّة، من صحف ومجلات وفضائيات ومهرجانات ومنتديات ومؤسسات رسمية وشبه رسمية، لكنني أبادر، دائماً، إلى الاعتذار عن عدم التلبية .. وأظن أنّ بوسع العشرات ممن كتبوا إليّ أو اتّصلوا بي أن يشهدوا بذلك .
إنني ، خلال أعوام طويلة، لم ألبِّ سوى دعوتين اثنتين للحوار، أولاهما مع مجلّة معارضة بشدّة لأنظمة القمع، والثانية مع مجلّة كان يصدرها شبّان شرفاء كتجربة لصحافة مختلفة، ولم تكن لهم أيّة علاقة بسلطة تدفعهم أو تدفع لهم. وأكبر دليل على براءة هاتين المجلتين، أنهما توقفتا عن الصدور، لضيق ذات اليد، ولضيق ذات الطغيان !
مختصر القول: إنّ الشهرة –على ضيقها- هي التي تسعى إليّ، ولو أنها توقّفت عن مسعاها ، فسأكون لها شاكراً وممتناً. أمّا المال المحدود الذي أكسبه بعملي فإنني أبذل أضعافه جهداً، ثمّ لا ألبث أن أدفع ثلثه ضرائب للحكومة .
بلّغ أثباج أنني أنا من يدفع للحكومة !
المفضلات