الفصل الثاني
صباح مشرق , بأهازيج الفرح والابتسام , وأصوات الطيور تزقزق وتغرد وكأنها تخبر الجميع بقدوم يومٍ جديد , لا أحزان فيه , ولا أكدار تعكر صفو هذه الحياة الجميلة , المفعمة بالتفاؤل والثقة.
استيقظ والدي وكأنه يعد الساعات والدقائق عداً ليأتي اليوم ليأخذني إلى المنزل , ويراني للولهة الأولى , نهض يستحم لساعات , وأي ساعاتٍ هذه , يستحم فيها إنسان ! .. ساعات حزنٍ وألم ! .. ساعات فراقٍ وندم ! .. ساعات يغسل عن نفسه الذنوب والخطايا , إنه يوم جديد , لا يرى فيه وجه والدتي , المبتسم في الصباح , وهي تعنفه ! أن ينهض من النوم ليستحم ومن ثم يشرب كوباً من القهوة , ويخرج إلى عمله الشاق.
إنها سنة الحياة عمل وكد وتعب , ثم راحة واسترخاء وموت ! .. ليخرج وعليه منشفته , إنه حزين ومحطم , وهالتان سوداوتان تحومان حول عينيه ! .. من البكاء والجزع على والدتي , وإنه لم يأكل منذ أيام , لفقدانه الشهية , يرتدي ملابسه في ملل شديد , يسير بخطى هائمة , لا يدري ما الذي يعصف به , ليصل إلى المستشفى.
وتقول له الممرضة : يجب عليك أولاً أن تملئ هذه الأوراق وتوقعها.
وبعد أن أتمها , تأتي بي الممرضة وتضعني بين أحضانه , طفلة صغيرة جميلة لا تعرف الحياة ولا الهموم والأحزان.
يدقق ويمعن النظر فيَّ , إنها تشبه والدتها إلى حدٍ كبير , فشعرها الناعم , شديد السواد , ينمو فوق رأسها الصغير , وأنفها الطويل مستقيم بشكل جميل , وشفتيها الناعمة وردية اللون.
إنها تشبهك يا خديجة ، ليتك حاضرة لتريها ، ولكن للأسف ماذا أقول ؟ رغم جمالها وصغرها وطفولتها سأربيها وأرعاها ، وسأصبح الأم والأب في الوقت ذاته.
ولكني لن أنسى أنها سبب موت خديجة ! .. إن بسببها ماتت حبيبتي ورفيقة عمري ، بعد إن وضعتها وأعطتها عمرها لكي تعيش بدلاً منها ، لأنها لطالما حلمت بابنة ترنو وترقص في البيت ، ليضيف عليها لوناً آخر للحياة المتعبة ، وتسليها في الساعات التي أغيب عنها ، مادمت يا طفلتي .. أخذتي الحياة وسلبتها من والدتك ! .. فتحمَّلي سبب موتها أنتِ ! ولتذوقي أشد أنواع الأسى والحاجة والعون.
لا أحد لكي غيري , نحن من عائلة فقيرة ! .. تزوجتُ من أمك رغماً عن والديَّ ! .. اللذان اختارا ابنة الجيران زوجةً لي , ولكن خديجة أنا من اخترتها , واحببتها بكل جوارحي.
فهي التي دفعتني للبحث عن عمل , ولكن لا أحد أرادني ! .. لأني لا أملك الخبرة , ولستُ من عائلة مرموقة , وليس لدي شهادة ! .. سوى شهادة الابتدائية ! ..
فمن شدة عنفي وسوء أخلاقي , مدتُ يدي على أستاذ لي , ولم أندم على ضربه , مما جعلهم يفصلونني عن المدرسة , لأبقى وحيداً بلا أم ولا أب ! .. لأنهما توفيا وأنا صغير لم أتجاوز الثالثة عشر عاماً في حادث سيارة.
فأنا مقطوع من شجرة , ولا أحد لي سوى زوجتي , فأخذت أبحث عن وظيفة , وعندما قالوا لي : إن هناك وظيفة شاغرة وهي ميكانيكي , لم تعجبني ! .. ولكن خديجة قالت : صحيح إنها وظيفة بسيطة ولكن تدخل عليك المال , ولو كان قليل , فجد واجتهد.
فأقنعني كلامها وأصبح هذا عملي , عملي الدائم , ولكن من الذي يربي ابنتي بعد خروجي للعمل , من الذي يطعمها إذا جاعت , من الذي يسكتها إذا بكت وناحت , فأخذتها ورجعت إلى المنزل , لأسقيها الحليب الذي أعطتني إياه الممرضة , إلى أن نامت , وبعدها اتصلت بالورشة لأعتذر اليوم لظروفٍ قد أشغلتني.
غصت في موجٍ من الأفكار إلى أن وقع نظري على ابنتي الصغيرة في ماذا سأسميها ؟
أمل ، وفاء ، رغد ، أحلام .. عرفت ماذا سأسميها ؟ سأطلق عليها اسم فاطمة , لطالما تمنته خديجة , قائلة لي : إذا أنجبت فتاة سأسميها فاطمة , وإذا أنجبت صبي سأسميه قاسم.
نعم ! .. فاطمة إنه اسم جميل ولطيف , أخذ يفكر في فاطمة , مخاطباً إياها : فاطمة يا ابنتي , ما أحلى معنى الأبوة والأمومة , ولكنك يا طفلتي فقدت أمك وأنت صغيرة , ظلمتك الدنيا , من فور خروجك إليها , لتسلبك حياة أمك وتفرض عليَّ , عيش حياةٍ يائسة وفقيرة معك.
لذا أوصيك بصبر عليَّ , وعلى الأكل والشرب , والملابس , التي ستريدينها رغماً عنك , عرفت فائدتها أم لا ؟
يا ابنتي , إن الحياة قاسية ! .. ظالمة ! .. وإن الناس على اختلافهم , فمنهم القاسي والحاني , الظالم والعادل , القوي والضعيف , الغني والفقير , فتحمَّلي المصائب , يا فلذة كبدي.
هكذا تكالبت عليك حياتك , معجونة بالألم والأحزان ! .. وصفحات سوداء ! .. ستمر عليك طفلتي , فلا تبكي ولكن اذكريني , كيف جاهدت ! .. وكافحت ! .. إلى أن أنجبتك أمك , طفلة بريئة , لا تعرفين الدرب , إلى أين سيأخذك ورغم رفضك إليه , سيأخذك عزيزتي .
الجزء الثالث بعد يومين( للتشويق ههه ) ..
المفضلات