الفصل الرابع
خفق قلبي بعدما طُردتُ من البيت ! .. ذليلة , منكسرة , لا أحد لي , ومن الذي طردني ؟ أم هاشم ! .. التي اهتمت بي بعد موت والدتي , وكانت تُحضر لي الطعام , والملابس , وبعد رفض زوجها لي طردتني ؟! وكأني لم أعني لها شيء ! .. طردتني وكأنها ترمي قمامة خارج المنزل , ما هذه القساوة ؟ ما هذا القلب الذي في داخلك ؟ تركتني في الشارع كقطة لا بيت لها لأعيش تحت القمامة وآكل فضلات الناس .
جلستُ على باب منزلنا , لأتذكر والدي الذي كان يلعب معي , ويضحك , ونأكل سوياً , وننام , ولكنه في يوم غضبه مني يقول لي شيئاً أثقل على قلبي ! .. تمنيت الموت حينها ! .. كان يردد أنت سبب موت والدتك , أنت لعينة , تنهبين الناس حياتهم , لماذا ؟ لماذا ولدت ؟ وعندما يراني أحدق به , وقد أغرورقت عيناي من حدة كلامه يحنو عليَّ , ويضمني ليخفف من خاطري قائلاً : أنت أبنتي رضيت أم أبيت .
ليأتي إليَّ رجلٌ كهلٌ , وقد أخذ الشيب منه كل شعرةٍ , ورائحته نتنه , وملابسه قذرة.
يقول لي : أين والدك ؟
لأقول له : والدي مريض وسوف يموت .
ليصرخ وأنا ! .. أين نقودي ؟ كيف يموت دون أن يدفع لي إيجار المنزل ؟ تباً له و لك , ولماذا لم يأخذك معه لكي تموتي ؟ أنني لا أبارح المشاكل منذ معرفتي والدك ! .. لا رحمة الله عليه ولا عليك .
جلستُ منتظرةً بجانب منزلنا حتى المساء , ولم يأتي أحد يسأل عني , ما هي أخباري ؟ كيف حال والدي بعد مرضه ؟ لم يزره شخصٌ في المستشفى , إنه ينتظر رحمة رب العالمين , لتأخذه ليعيش معها بسرور وفرح , وأي سرورٍ هذا !.. لقد تركني وحيدة لا مسكن , ولا أهل , و الرجل القذر ذاك قد أغلق منزلنا , لأننا لم ندفع له النقود , آه .. يا إلهي .. ماذا أعمل ؟
نعم !.. أريد أن أذهب إلى والدي في المستشفى المركزي , وقفت على قارعة الطريق , مددت يدي لأوقف لي قافلة , وقفت لي سيارة صغيرة , وبها شابان.
ليقول لي أحدهما : إلى أين تريدين أن نوصلك في طريقنا أيتها الجميلة ؟
لقد أخافني , ارتبكت , ماذا أقول له ؟ هل أصعد معه أم ماذا ؟
قلت له وأنا مرعوبة منهما : هل بإمكانكما أن توصلاني إلى المستشفى المركزي ؟
بكل سرور تفضلي , خرج من السيارة ليفتح لي الباب الخلفي , جلست وأنا أتنهد بشدة , مليء الخوف والقلق , ليعود هو إلى مقعده وينطلق بسرعة قسوة إلى أن أوصلاني في ربع ساعة , أوقف السيارة.
ليقول لي : تفضلي .
أهذه مستشفى ؟؟
أحمَّر وجهي خجلاً وحياء , شكراً , ولكني لا أملك النقود .
يضحك هو و زميله على كلامي بكل سخرية , ويقولان لي في الوقت عينه : نحن لا نريد نقودك , أنت في حالة يرثى لها , وبالطبع لا تملكين النقود , هيا هيا , أخرجي من السيارة لقد تأخرنا على موعدنا .
ارتبكت أصابني الذهول منهما , لأخرج وأغلق الباب بهدوء وسكينه .
توجهت إلى المستشفى لأدخل , دهشني المنظر ! .. وأنا أرى أطفالاً كثيرين مع أبائهم , وكان هناك رجلاً يرتدي ثياباً لبقه , وبالونين الأزرق الفاتح والغامق , أوه , أنه ( السكرتي ) لأسأله :
لو سمحت , والدي أبحث عن والدي اسمه محمد ياسين الشامي وهو مريض .
ليقول لي : إنه في العناية المركزة.
هل بإمكاني رؤيته ؟ إني ابنته الوحيدة .
ولكن يُمنع دخول الأطفال , وأنت ما زلت طفلة , لا أستطيع.
لتبكي بحرقة وألم , أريد رؤية والدي .. أرجوك.
هيا .. أرجعي من حيث أتيت .
ولكن إلى أين ؟ فلا أم لي ولا منزل يضمني , ووالدي مستلقٍ عندكم , وأنتم لا تريدوني أن أراه ! .. حباً لله , يا رجل دعني أراه .
حسناً , ولكنك لن تبكي هناك صحيح ؟ لأنك لو بكيتي , سأخرجك بنفسي , اتفقنا ؟
اتفقنا .
لو رآني الرئيس لوبخني حتماً .
دخل معي المصعد , لنخرج من الجهة الثانية , أدخلني الغرفة , وكانت هناك أسِّرةٌ عديدة , ومرضى يناجون ربهم , ويستغفرون لذنوبهم , قبل أن تأتي منيتهم.
أن هذا أباكِ محمد ياسين الشامي .
تنظر إليه , إنه والدي صحيح , يا إلهي , قد نقص وزنه , وشحب لونه , أجهزة في أنفه , وعلى صدره.
شدني هناك جهاز يطلق صوتاً مخيفاً ! .. لأسأل الرجل : ما هذا ؟
ليقول : إنه جهاز نبض القلب , وفجأةً ! .. قبل أن اكلمه , أن اودعه , وإذا بالجهاز يصدر صوتاً عالياً ...
صرخ الرجل : هيا لقد توقف قلبه . أخرجي بسرعة , جاء الأطباء والممرضات , وكلهم محيطون بوالدي , ماذا يفعلون له ؟ ومن ثم تفرقوا بعدما أخذ أحدهم مدوناً في دفتر ساعة الوفاة.
خرج الرجل , وملامحه حزينة , وينظر إليَّ.
حبيبتي , لقد مات والدك رحمة الله عليه.
لقد همت في كلامه , مات والدي ! .. كيف ؟ لماذا ؟ من لي الآن , لا أحد .. لا أحد , وأخذت أبكي , وانتحب , لقد ارتفع صوتي حتى ظن الآخرون أن مكروهاً حدث لي.
اهدئي عزيزتي , سأقلك إلى منزلك عندما ينتهي وقتي , تقريباً الساعة الحادية عشرة.
الفصل الخامس
حبيبتي , استيقظي لقد حان وقت الذهاب , هيا .. هيا .. صعدت معه السيارة , وأخذ الرجل يردد : بسم الله الرحمن الرحيم ]كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [ صدق الله العظيم.
أخذ يشرح لي , ويقول : نحن في هذه الدنيا مجرد مسافرين أو عابرين سبيل , نضحك ونتكلم , وفجأة يهم الصمت في الجسد , نأتي هنا لنأخذ الزاد للآخرة مهما طال المكوث.
أين منزلكِ ؟
وصفتُ له , أين يكون إلى أن أوصلني.
نزلت من السيارة بعدما شكرته , ذهبت إلى منزل جارتنا أم هاشم , دققت الجرس لترد عليَّ أم هاشم قائلةً : من هناك ؟
لأقول لها : فاطمة.
قائلة : فاطمة عزيزتي.
قلت : يا أم هاشم , أين منزل والدتي خديجة ؟
لتردّ عليّ وهي تصرخ : لا يا حبيبتي , لا تذهبي هناك ! .. فإن أمك قد تزوجت رغماً عن والديها , ليقول لها أباها لا تعودي تتوسلي إلينا بعد زواجك , وأنا متبرئ منك إلى يوم الدين , يا خديجة. لتصرخ أمها في وجهها ذهابٌ بلا عودة.
تسمع صراخ أبا هاشم , مَن يا أم هاشم ؟ من يطرق الباب ؟ لتغلق الباب في وجه فاطمة قائلة : الأولاد , الحمد لله والشكر , أولاد بدون تربية قليلو الحياء.
فاطمة تجول وتجول بين منازل كبيرة , وتتأمل كثيراً , يا ترى هل هؤلاء سعداء أم لا ؟ وبعد أن أخذها التعب والإرهاق , تستلقي بجانب قمامة لتنام.
وبعدما أفاقت , لترى ضوء الشمس شديد الحرارة , قد أتعبها , أكلت بقايا طعام قد ألقي في الطريق , إن حالتها يرثى لها , شعرها منكوش , وغير مرتب , وفيه بقايا تراب من الطريق , ووجهها قد اسَّود من شدة الغبار والأوساخ , وجوع فلا ماء معها ولا طعام , وثيابها المتسخة القذرة قد تمزقت عند ركبتيها.
أخذت تبحث لها عن مأوى , تنظر وإذا برجل أمامها , وقد لفت انتباهها نظافته وشهامته ورجولته أيضاً , إنه فعلاً جميل ولطيف ومهذب.
أين منزلك , يا فتاة ؟
لا منزل لديَّ , فوالديَّ قد ماتا , ولا أحد لي بعدهما.
ليردد : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم , أنا أعلم بمأوى للأيتام , سيقدمون لك ما تحتاجينه , أتريدين الذهاب إلى هناك ؟
نعم .. نعم .. أين هو المكان ؟
تريثي , يا عزيزتي .. انهضي بهدوء وتقدمي إلى جانبي لكي نمشي , إنه قريب.
حسناً .. حسناً .. ولكن من أنت ؟
أنا أسمي يوسف , وهذا منزلنا مشيراً إلى منزل كبير و فخم.
تهز رأسها على إجابته , وكأنها تعرفه.
ها نحن وصلنا إليه.
هيا .. أدخلي وعرفي نفسك , ليهتموا بك , فأنت فتاة جميلة , ولا تستحقين التشرد واليتم.
تتقدم , ولكنها نسيت أن تشكره , لتستدير بكاملها وتقول له : شكراً لك، ويجازيك الله خيراً , لتضمه بقوة وتهرب لتدخل.
تستقبلها امرأة بشوشة والابتسامة على وجهها لم تفارقها , من أنت ؟ وما أسمك ؟ وماذا تريدين ؟ رويدك .. رويدك .. أسئلة متلاحقة لا يمكنني الإجابة عليها بهذه السرعة.
تجاوب على أسئلتها , وهي مكسورة الخاطر , ودامعة العين , نار من الحزن يشتغل في جوفها , انتابها الخوف والاضطراب , الذل والانكسار , فتحت هذه المرأة جروحاً ملتهبة.
اسمي فاطمة محمد الشامي , ووالدتي خديجة الصنديد , وقد توفيا , توفيت والدتي حين ولدتني , ووالدي ليلة أمس , ولم يبق لي أحد.
مرحباً .. تفضلي .. عزيزتي فاطمة , نحن سنرعاك إلا أن تكبري.
فرحت فاطمة وضحكت , ضحكةً خجولة ملؤها السعادة والحياء.![]()
المفضلات