انتخبنا هذا العدد وهذه العدة من جماعة كثيرة من المفسرين والمحدّثين، ولولا الخوف من الملل لأسهبنا في ذكر المصادر، وفي هذا المقدار تبصرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
لا أراني بحاجة إلى المزيد من التحدّث حول الموضوع بعد شهادة آية التطهير التي يستفاد منها أن الزهراء طاهرة - بجميع معنى الكلمة - وستأتيك الأحاديث الكثيرة حول كونها بتولاً ورعاية لأسلوب الكتاب وبمناسبة اسمها (الطاهرة) نذكر ما تيسّر:
لقد طهرّها الله عن العادة الشهرية، وعن كل دنس ورجس، وعن كل رذيلة، والرجس: كل أمر تستقذره الطباع، ويأمر به الشيطان، ويحق لأجله العذاب، ويشين السمعة وتقترف به الآثام، وتمجّه الفطرة، وتسقط به المروءة.
وذكر ابن العربي في (الفتوحات المكية باب 29) إن (الرجس فيها عبارة عن كل ما يشين الإنسان) وهذا معنى العصمة التي تعتقد به الشيعة في الأنبياء والأئمة والسيدة فاطمة الزهراء، وهي مرتبة عظيمة، ومنزلة سامية خصّ بها بعض عباده.
وليس من لوازم العصمة تبليغ الأحكام، فإن كانت العصمة لازمة للنبي والإمام لقيامهما بأعباء التبليغ فليس معنى ذلك أن غيرهما لا يتصف بالعصمة.
وقد احتج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) على عصمة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بآية التطهير، في حوار جرى بينه وبين أبي بكر، نذكر بعضه شاهداً لما نحن فيه:
قال علي (عليه السلام) لأبي بكر: يا أبا بكر أتقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال: أخبرني عن قول الله عز وجل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً). فيمن نزلت؟ فينا أو في غيرنا؟ قال: بل فيكم. قال: فلو أن شهوداً شهدوا على فاطمة بنت رسول الله بفاحشة ما كنت صانعاً؟ قال: كنت أقيم عليها الحدَّ كما أقيم على نساء المسلمين!! قال: كنت إذن عند الله من الكافرين. قال: ولِم؟ قال لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة، وقبلت شهادة الناس عليها.. الخ(8).
ومن لوازم هذه الطهارة عدم التنجس بالموت مع العلم أن كل إنسان مهما بلغ في التقوى والعبادة إذا مات نجس جسمه نجاسة مشدّدة، بحيث يجب الغسل على مَن مسَّ ذلك الميت بعد برده، ولا يطهر الميت إلا بالتغسيل، ولكن المعصومين كانوا مطهرين في حياتهم وبعد موتهم، ففي الوسائل عن الحسن بن عبيد قال: كتبت إلى الصادق (عليه السلام): هل اغتسل أمير المؤمنين حين غسَّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند موته؟ فأجاب: (النبي طاهر مطهَّر، ولكن فعل أمير المؤمنين وجرت به السُنة).
وسيأتيك المزيد من التفصيل في أواخر هذا الكتاب في باب تغسيلها، إن شاء الله. وقد روى في كتب الشيعة حول نزول آية التطهير حديث اشتهر بحديث الكساء وهو كما في عوالم الكبير عن جابر بن عبد الله الأنصاري:
عن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنها قالت: دخل عليَّ أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض الأيام فقال: السلام عليك يا فاطمة. فقلت: وعليك السلام. فقال: إني أجد في بدني ضعفاً. فقلت له: أعيذك بالله يا أبتاه من الضعف. فقال: يا فاطمة ائتيني بالكساء اليماني وغطِّني به. قالت فاطمة (عليها السلام) فأتيته بالكساء اليماني فغطَّيته به وصرت أنظر إليه وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله.
قالت فاطمة: فما كانت إلاَّ ساعة وإذا بولدي الحسن (عليه السلام) قد أقبل وقال: السلام عليك يا أماه. فقلت: وعليك السلام يا قرة عيني وثمرة فؤادي. قال لي: يا أماه إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم يا ولدي إن جدك نائم تحت الكساء فأقبل الحسن (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا جداه، السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أدخل معك تحت الكساء؟ فقال: وعليك السلام يا ولدي وصاحب حوضي قد أذنت لك. فدخل معه تحت الكساء.
قالت: فما كان إلاّ ساعة وإذا بولدي الحسين (عليه السلام) قد أقبل وقال: السلام عليك يا أماه. فقلت: وعليك السلام يا قرة عيني وثمرة فؤادي فقال لي: يا أماه إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم، إن جدَّك وأخاك تحت الكساء. فدنى الحسين (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا جدَّاه السلام عليك يا من اختاره الله أتأذن لي أن أكون معكما تحت هذا الكساء؟ قال (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا ولدي وشافع أمتي قد أذنت لك. فدخل معهما تحت الكساء.
قالت فاطمة (عليها السلام) فأقبل عند ذلك أبو الحسن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: السلام عليك يا بنت رسول الله فقلت: وعليك السلام يا أبا الحسن يا أمير المؤمنين فقال: يا فاطمة إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة أخي وابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: نعم، هاهو مع ولديك تحت الكساء. فأقبل أمير المؤمنين (عليه السلام) نحو الكساء وقال: السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أكون معك تحت هذا الكساء؟ قال له: وعليك السلام يا أخي وخليفتي وصاحب لوائي قد أذنت لك. فدخل علي (عليه السلام) تحت الكساء.
ثم أتت فاطمة (عليها السلام) وقالت: السلام عليك يا أبتاه السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أدخل معكم تحت هذا الكساء؟ قال لها: وعليك السلام يا بنتي وبضعتي قد أذنت لكِ. فدخلت فاطمة معهم.
فلما اكتملوا واجتمعوا تحت الكساء أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطَرفي الكساء وأومأ بيده اليمين إلى السماء وقال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصَّتي وحامَّتي لحمهم لحمي، ودمهم دمي، يؤلمني ما يؤلمهم ويُحرجني ما يُحرجهم، أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم، وعدوٌ لمن عاداهم، ومحب لمن أحبَّهم، إنَّهم مني وأنا منهم، فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك عليَّ وعليهم، وأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
قال الله عز وجل: يا ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماءً مبنية، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً، ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري، ولا فُلكاً تسري إلاَّ في محبّة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء.
فقال الأمين جبرئيل: يا رب من تحت الكساء؟ فقال الله عز وجل: هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.
فقال جبرئيل: يا رب أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون لهم سادساً؟ فقال الله عز وجل: قد أذنت لك. فهبط الأمين جبرئيل فقال: السلام عليك يا رسول الله! العلي الأعلى يقرئك السلام، ويخصّك بالتحية والإكرام ويقول لك: وعزتي وجلالي! إني ما خلقت سماءً مبنية، ولا أرضاً مدحيَّة، ولا قمراً منيراً ولا شمساً مضيئة، ولا فلكاً يدور، ولا بحراً يجري ولا فُلكاً تسري إلاَّ لأجلكم، وقد أذن لي أن أدخل معكم تحت الكساء، فهل تأذن لي أن أدخل أنت يا رسول الله؟
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وعليك السلام يا أمين وحي الله قد أذنت لك. فدخل جبرئيل معهم تحت الكساء فقال: إن الله قد أوحى إليك يقول: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً.
فقال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أخبرني ما لجُلُوسِنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً ما ذُكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا إلاَّ ونزلت عليهم الرحمة وحفّت بهم الملائكة، واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا.
فقال علي (عليه السلام): إذن - والله فزنا - وفازت شيعتنا وربِّ الكعبة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبياً، واصطفاني بالرسالة نجياً ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محال أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبّينا وفيهم مهموم إلاَّ وفرّج الله همَّه، ولا مغموم إلاَّ وكشف الله غمه، ولا طالب حاجة إلاَّ وقضى الله حاجته.
فقال علي (عليه السلام) إذن - والله - فُزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة.
وقد نظم هذا الحديث الشريف السيد الأجل السيد محمد القزويني بن السيد مهدي القزويني النجفي الحلي:
روت لـــــنا فاطــــــمة خير النساء حديـث أهل الفضل أصحاب الكساء
تقـــــــول: إن ســـــيد الأنــــــــــام قد جـــــاءني يومــــــاً مــــن الأيام
فقال لــــــي: إنـــــي أرى في بدني ضعفاً أراه اليــــــوم قــــد أنحــلني
قومي عَليَّ بالكســـــاء اليمــــــاني وفيـــه غطــــيني بــــــلا تـــــواني
قالــــت: فجــــــئته وقـــــد لبـــيته مســــــرعةً وبالكــــــساء غـــطيّته
وكنـــــت أرنــــــو وجــــهه كالبدر فـــــي أربــــــع بعــــد ليـــال عشر
فما مضـــــى إلاَّ يســـــير من زمن حتـــــى أتـــــى أبو محــمد الحسن
فقال: يا أمـــــــاه إنـــــــي أجــــــد رائـــــــحة طـــــــــيبة أعتـــــــــقد
بأنـــــــها رائــــــــــحة النـــــــــبيِّ أخ الوصــــــي المرتـــــــضى علي
قلــــــــت: نعم هاهو ذا تحت الكسا مـــــــــدثَّرٌ به، معــــــطىً واكتسى
فجــــــاء نحــــــوه ابــــــنه مسلماً مستأذناً قــــــال لـــه: أدخل مكرماً
فما مضـــــــــى إلاَّ القــــــــــليل إلاَّ جاء الحســـــــين الســــبط مستقلا
فقال يـــــــا أم أشـــــــــمّ عـــــندكِ رائحـــــــة كأنـــــــها المسك الذكي
وحـــــــــقِّ مــــن أولاك منه شرفاً أظنـــــــــها ريـــح النبي المصطفى
قلت: نعــــــــم تحـــــت الكساء هذا بجنــــــــبه أخـــــــــوك فــــيه لاذا
فأقـــــــبل الســــــــــبط له مستأذناً مسلّــــــــماً قــــــال له: أدخل معنا
وما مضــــــى مــــن ساعة إلاًَّ وقد جـــــــاء أبوهـــــما الغضنفر الأسد
أبو الأئــــــــمة الهــــــــــداة النُّجبا المرتـــــــضى رابع أصحـاب الكسا
فقال يا ســــــــــــيدة النــــــــــساء ومـــــن بهــــــا زُوِّجتُ في السماء
إني أشــــــــمّ فــــــي حماك رائحة كأنها الـــورد النــــــــديّ فايــــــحة
يحكي شـــــــذاها عَرف سيد البشر وخـــــــير مــن لبَّى وطاف واعتمر
قلت: نعــــــــــم تحت الكساء التحفا وضــــــــمّ شبلـــــــيك وفيه اكتنفا
فجاء يســـــــتأذن مـــــــنه ســـائلاً منه الدخــــــول قال: فأدخل عاجلا
قالت: فجـــــــئت نحــــوهم مسلّمة قال: ادخـــــــلي محبــــــوّة مكرّمة
فعندما بـــــــهم أضــــــاء الموضع وكلّهم تحـــــــت الكســـاء اجتمعوا
نادى إلـــــه الخــــــــــلق جل وعلا يُسمــــــع أملاك الســـماوات العلى
أقســــــم بالعـــــــزة والجــــــــلال وبارتفـــــــــاعي فـــــوق كل عالي
ما مـــــــن ســــــــما رفعتها مبنية وليس أرض فــــــــي الثرى مدحية
ولا خلــــــــقت قمــــــــراً منـــــيرا كلاًّ ولا شمـــــــساً أضــــاءت نورا
وليس بحــــــر فـــــي المياه يجري كلاًّ ولا فُـــــــلك البـــــــحار تسري
إلاَّ لأجــــــــل مــــن هم تحت الكسا من لــــــــم يكـــــــن أمرهم ملتبسا
قال الأمــــــــين: قلت: يا رب ومن تحــــــت الكســـــــا؟ بحقهم لنا أبِن
فقال لـــــــــي: هـــم معدن الرسالة ومهـــــــبط التـــــــــنزيل والجلالة
وقال: هــــــــم فاطــــــــمة وبعلها والمصــــــطفى والحســـنان نسلها
فقلت: يا ربــــــــاه هـــــل تأذن لي أن أهبــــــط الأرض لــــذاك المنزل
فأغتــــــدي تحــــت الكساء سادساً كما جعــــــــلتُ خادمـــــاً وحارسا؟
قال: نعــــــــم. فجـــــــاءهم مسلّما مسلــــــماً يتـــــــــــــلو عليهم إنما
يقول: إنَّ الله خصّــــــــــكم بــــــها معجـــــــزة لــــــــــمن غدا منتبها
المفضلات