الصِّدِّيقة

لقد مرَّ عليك أن من جملة أسمائها (عليها السلام) الصدِّيقة، بكسر الصاد والدال المشدّدة (صيغة المبالغة) في التصديق أي الكثيرة الصدق.

والصِدِّيق أبلغ من الصدوق، وقيل: الصدِّيق: من كثر منه الصدق. وقيل: بل مَن لم يكذب قط. وقيل: الكامل في الصدق، الذي يصدِّق قوله بالعمل، البار، الدائم التصديق وقيل: مَن لم يتأت منه الكذب لتعوِّده الصدق. وقيل: مَن صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله. كذا في تاج العروس.

وقيل: المداوم على التصديق بما يوجبه الحق، وقيل: الذي عادته الصدق. وقيل: إنه المصدِّق بكل ما أمر الله به وبأنبيائه، لا يدخله في ذلك شك، ويؤيده قوله تعالى: (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصدِّيقون). سورة الحديد، الآية: 19.

هذه تعاريف في معنى الصدِّيق، ولكن المستفاد من الآيات الكثيرة والروايات المتعددة أن مرتبة الصدِّيقين في عداد مراتب الأنبياء والشهداء لهم حساب خاص بهم ودرجة مخصوصة بهم. استمع إلى هذه الآيات ليظهر لك ما قلنا:

(ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً) سورة النساء، الآية: 69.

(واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صدِّيقاً نبياً) سورة مريم، الآية: 39.

(واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدِّيقاً نبياً) سورة مريم، الآية: 56.

(وما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صدِّيقة) سورة المائدة، الآية: 75.

وفي تفسير قوله تعالى: (وأُمَّه صدِّيقة) قيل: سُميَّت صدِّيقة لأنها تُصدِّق بآيات ربها، ومنزلة ولدها وتصدِّقه فيما أخبرها به، بدلالة قوله تعالى: (وصدَّقت بكلمات ربها) وقيل: لكثرة صدقها، وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها.

بعد استعراض هذه الآيات والأقوال يمكن لنا أن نستفيد أن التصديق بالله وبالأنبياء والكتب السماوية والأحكام الشرعية تارة يكون باللسان دون العمل.

ففي الوقت الذي يصدّق الإنسان بأن الله تعالى يراه مع ذلك يعصي الله عز وجل ويعلم بأن الله تعالى قد أوجب عليه حقوقاً مالية أو غير مالية مع ذلك لا يؤدي تلك الحقوق ويعلم بأن الله حرَّم الخمر والربا والزنا ومع ذلك لا يرتدع عن تلك المعاصي فهو مصدّق بالله وبالحلال والحرام، والثواب والعقاب، والجنة والنار، ولكن عمله لا يطابق هذا التصديق، أي لم يبلغ به التصديق درجة المطابقة بين القول والفعل أو بين الاعتقاد والعمل.

ولكنّ الصدِّيقين هم الذين يعتقدون الحق ويؤمنون به، ويعملون على ضوء تلك المعتقدات، وهؤلاء عددهم قليل ونادر في كل زمان وفي كل مكان.

وأنت إذا قارنت بين هذه التعاريف وبين أعمال الناس يظهر لك بكل وضوح أن عدد الصدِّيقين قليل جداً جداً، ولعل في بعض البلاد لا يوجد صدّيق واحد.

وبعد هذا كله سوف يسهل عليك أن تعرف أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد بلغت مرتبة الصدِّيقين، وسمَّاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصدِّيقة. كما في (الرياض النضرة ج2 ص202) وفي (شرف النبوة) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال لعلي: أُتيتَ ثلاثاً لم يؤتَهن أحد ولا أنا:

أُتيتَ صهراً مثلي ولم أُوت أنا مثلي.

وأُتيتَ زوجة صدِّيقة مثل ابنتي ولم أُوت أنا مثلها زوجة.

وأُوتيتَ الحسن والحسين من صلبك ولم أُوتَ من صلبي مثلهما.

ولكنكم مني وأنا منكم.

وسأل المفضل بن عمرو عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت: من غسَّل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين فكأنني استعظمت ذلك من قوله، فقال كأنك ضقتَ بما أخبرتك به؟ فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك!

قال: لا تضيقنَّ، فإنها صدِّيقة، ولم يغسِّلها إلا صدِّيق، أما علمت أن مريم لم يغسِّلها إلا عيسى.


المُبَارَكَة

البركة: النماء والسعادة والزيادة كما في (تاج العروس) وقال الراغب: ولما كان الخير الإِلهي يصدر من حيث لا يحبس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل - لكل ما يشاهَد منه زيادة محسوسة -: هو مبارك فيه، وفيه بركة.

ولقد بارك الله في السيدة فاطمة أنواعاً من البركات وجعل ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نسلها، وجعل الخير الكثير في ذريَّتها، فإنها ماتت وتركت ولدين وابنتين فقط، وهم: الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) وزينب وأُم كلثوم، وجاءت واقعة كربلاء، وقتل فيها أولاد الحسين ولم يبق من أولاده إلاَّ علي بن الحسين (زين العابدين).

وقُتل من أولاد الإمام الحسن سبعة (على قول) واثنان من ولد زينب، وأما أُم كلثوم فإنها لم تعقب.

وبعد واقعة كربلاء تكررت الحوادث، وأُقيمت المذابح والمجازر في نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذرية فاطمة الزهراء من واقعة الحرَّة، إلى واقعة زيد بن علي بن الحسين إلى واقعة الفخ إلى مطاردة العلويين في عهد الأُمويين.

وجاء دَور بني العباس، فضربوا الرقم القياسي في مكافحة العلويين وإبادتهم واستئصال شأْفتهم، راجع كتاب (مقاتل الطالبيين) تجد بعض تلك الحوادث.

واستمرت المكافحة أكثر من قرنين حتى قُتل الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وهو الإمام الحادي عشر مسموماً في مدينة سامراء، ولم يكن صلاح الدين الأيوبي بأقل من العباسيين في إراقة دماء آل رسول الله ودماء شيعتهم، فلقد أقاموا في المغرب العربي مجازر ومذابح جماعية تقشعر منها الجلود.

ومع ذلك كله فقد جعل الله البركة في نسل فاطمة الزهراء، وقد جعل الله منها الخير الكثير.

وفي تفسير قوله تعالى: (إنا أعطيناك الكوثر) أقوال للمفسرين، وإن كان المشهور أن الكوثر هو الحوض المعروف في القيامة، أو النهر المشهور في الجنة ولكن الكوثر على وزن فوعل - هو الشيء الكثير والخير الكثير.

وقد ذكر السيوطي في (الدر المنثور) في تفسير شرح الكوثر: وأخرج البخاري وابن جرير والحاكم عن طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: الكوثر: الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير فإنّ ناساً يزعمون أنَّه نهر في الجنة. قال: النهر الذي في الجنة هو من الخير الكثير الذي أعطاه.

والأنسب بالمقام. وبمقتضى الحال - كما في التفسير للرازي - أن يكون المقصود من الكوثر هي الصدّيقة فاطمة الزهراء، فقد ذكر الطبرسي في (مجمع البيان) في تفسير سورة الكوثر: قال: قيل: الكوثر هو الخير الكثير، وقيل: هو كثرة النسل والذرية، وقد ظهرت الكثرة في نسله - رسول الله (صلّى الله عليه وآله) - من وُلد فاطمة حتى لا يحصى عددهم، واتصل إلى يوم القيامة مددهم.

وقال الفخر الرازي في تفسيره حول الآية:

(والقول الثالث): الكوثر أولاده، قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردَّاً علة من عابه (عليه السلام) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلاً يبقون على مرِّ الزمان فانظر كم قُتل من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أُمية في الدنيا أحد يُعبأُ به، ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكية وأمثالهم.

ووجه المناسبة: أن الكافر شمت بالنبي حين مات أحد أولاده وقال: إن محمداً أبتر، فإن مات، مات ذكره. فأنزل الله هذه السورة على نبيه تسلية له كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة، ولكن الله سيجعل هذا الواحد كثيراً.

وتصديقاً لهذا الكلام ترى في العالم (اليوم) ذرية فاطمة الزهراء الذين هم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) منتشرين في بقاع العالم، ففي العراق حوالي مليون وفي إيران حوالي ثلاثة ملايين، وفي مصر خمسة ملايين وفي الجزائر وفي تونس وليبيا عدد كثير، وكذلك في الأردن وسوريا ولبنان، والسودان وبلاد الخليج والسعودية ملايين، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر إندونيسيا حوالي عشرين مليوناً.

وقلَّ أن تجد في البلاد الإسلامية بلدة ليس فيها أحد من نسل السيدة فاطمة الزهراء. ويقدَّر مجموعهم بخمسة وثلاثين مليوناً، ولو أجريت إحصائيات دقيقة وصحيحة فلعل العدد يتجاوز هذا المقدار.

هؤلاء ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم من صلب علي وفاطمة وفيهم الملوك والأمراء والوزراء والعلماء والكتَّاب والشخصيات البارزة والعباقرة المرموقة.

ومنهم مَن يعتزُّ بهذا الانتساب ويفتخر به، ومنهم مَن يهمله ولا يبالي به، ومنهم مَن يسير على طريقة أهل البيت، ومنهم مَن يسير على خلاف مذهب أهل البيت.

وقد سمعت أنَّ بعض العلويين في إندونيسيا خوارج ونواصب!!

ومن أعجب العجب أن بعض المسلمين ما كان يعجبهم أن يعترفوا بهذا الانتساب أي انتساب ذرية علي وفاطمة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) بل يعتبرون هذا الاعتراف كذباً وافتراءً، ويحاربون هذه الفكرة محاربة شعواء لا هوادة فيها، وكانوا يسفكون الدماء البريئة لأجل هذه الحقيقة.

انظر إلى موقف الحَجاج السفَّاك الهتَّاك تجاه هذا الأمر، وهكذا المنصور الدوانيقي، وهارون الرشيد وغيرهم ممن حذا حذوهم وسلك طريقتهم.

وفي العاشر من البحار: عن عامر الشعبي أنه قال: بعث إليَّ الحجاج ذات ليلة فخشيت فقمت فتوضأْت وأوصيت، ثم دخلت عليه، فنظرت فإذا نطع منشور والسيف مسلول، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام فقال: لا تخف فقد أمنتك الليلة وغداُ إلى الظهر، وأجلسني عنده ثم أشار فأُتي برجل مقيَّد بالكبول والأغلال، فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إنَّ الحسن والحسين كانان ابني رسول الله، ليأْتيني بحجة من القرآن وإلاَّ لأضربنَّ عنقه.

فقلت: يجب أن تحلَّ قيده، فإنَّه إذا احتج فإنَّه لا محالة يذهب وإن لم يحتج فإنَّ السيف لا يقطع هذا الحديد.

فحلّوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير، فحزنت بذلك، وقلت: كيف يجد حُجَّةً على ذلك من القرآن؟ فقال الحجاج: ائتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلاَّ أضرب عنقك.

فقال له: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك. فقال: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم ثم قال: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب.. إلى قوله: وكذلك نجزي المحسنين) ثم سكت وقال للحجاج: اقرأْ ما بعده. فقرأ: (وزكريا ويحيى وعيسى) فقال سعيد: كيف يليق هاهنا عيسى؟ قال: إنَّه كان من ذريته قال: إن كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنته فنُسب إليه مع بُعده فالحسن والحسين أولى أن يُنسب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع قربهما منه.

فأمر له بعشرة آلاف دينار، وأمر أن يحملوه إلى داره وأذن له في الرجوع قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب عليَّ أن آتي هذا الشيخ فأتعلَّم منه معاني القرآن، لأني كنت أظن أني أعرفها، فإذا أنا لا أعرفها. فأتيته فإذا هو في المسجد، وتلك الدنانير بين يديه، يفرِّقها عشراً عشراً، ويتصدق بها ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين (عليهما السلام) لئن أغممنا واحداً لقد أفرحنا ألفاً وأرضينا الله ورسوله (صلى الله عليه وآله).

أقول: الآيات التي استدل بها سعيد بن جبير (رضوان الله عليه) هي: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلاّ هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين) سورة الأنعام؛ الآية: 85.

وهاك حديثاً آخر يكشف لك مدى العناد واللجاج والإلحاح على نفي هذه الفضيلة وتزييفها من الجانب المناوئ.

.