تتمه
ولو شئنا لذكرنا أمثلة وشواهد على كل فقرة لكنها مما لا تخفى على المطلع على التاريخ فأي قلب لا يذوب أسىً على ما سببه ذلك التضييع للحق الصريح.
النتيجة الخامسة: عزل الدين عن إدارة الحياة بكل أبعادها وتفاصيلها واقتصاره على الطقوس التعبدية والشؤون الفردية فقط فان القوم وان استطاعوا بالترغيب والترهيب ان يسلبوا السلطة الدنيوية من الامام (عليه السلام) الا انهم لا يستطيعون باي حال من الاحوال ان يسلبوا مكانته من القلوب وهيبته في النفوس ورجوع الناس اليه في شؤونهم الدينية هذا الانفصال الذي عبر عنه هرون الرشيد –كما يسمونه- لولده المأمون حينما استغرب من تكريمه للامام الكاظم (عليه السلام) بما لا نظير له فقال: (ويلك هذا امام القلوب وانا إمام الأبدان) والإمام وان سكت عن المطالبة بحقه في السلطة الدنيوية من اجل حفظ الاسلام وكيان المسلمين الا انه لا يمكنه باي حال من الاحوال التنازل لهم عن الامامة الدينية أو الاعتراف بهم وامضاؤهم كممثلين لهذه السلطة فان في ذلك خيانة لله ولرسوله وللاسلام على ان هذا الحق لا يتصور التنازل عنه فانه ليس امتيازاً أو موقعاً حتى يتخلى عنه، بل قدرة وقابلية على تلبية احتياجات الامة فكل من كان قادراً على ذلك ووجدت الامة حاجتها وآمالها وطموحاتها عنده اصبح اماماً وهكذا كان علي (عليه السلام) فما سمعنا انه احتاج إلى احد في شيء بل على العكس كانوا يرجعون اليهم في مسائلهم ومشاكلهم وقراراتهم حتى اشتهر قول الثاني: (لا ابقاني الله لمعضلة ليس لها ابو الحسن). ولذا استدل بعضهم على امامة امير المؤمنين باحتياج الناس اليه واستغنائه عن الناس.
وهذا الفصل بين السلطتين ترسخ وتعمق وانعكس على الدين نفسه فاصبح مرتكزاً في الاذهان ان ادارة شؤون الحياة ليس من شؤون الامامة الدينية وان دورها يقتصر على العبادات وبعض الاحكام الشخصية والتقوا بذلك مع نظرة الجاهلية (ما لله لله وما لقيصر لقيصر) وهذا هو الشرك بعينه فان الملك كله لله وحده والحكم كله لله وحده وما من واقعة الا ولله فيها حكم، اترى ان الشريعة التي لم تغفل عن تنظيم ابسط التصرفات الحياتية كالتخلي والنوم والاكل والجماع ووضعت لها احكاماً وآداب فهل تغفل عن وضع انظمة وقوانين تنظم حياة المجتمع من جميع الجهات ؟ وهذه حقيقة دامغة لا تقبل الشك الا انهم لا يذعنون لها لعدة امور:
1- ان الشريعة لا تنسجم مع اهوائهم وانانيتهم وحبهم للاستئثار بالفيء وسائر الامتيازات وتتعامل مع الجميع على حد سواء.
2- ان تحكيم الشريعة فيه اظهار لجهلهم وقصورهم وتقصيرهم وهو ما تأباه نفوسهم الامارة بالسوء.
3- ان ذلك ايضاً يعني احتياجهم للامامة الدينية وبالتالي يعني تفوق اولئك عليهم واستحقاقهم لهذا الموقع بدلاً عنهم.
النتيجة السادسة: حدوث الانفصال بين الامة والخلافة لان الامر لم يعد في نظر المتصدين امر اصلاح وهداية وتكميل النفوس ونيل رضا الله تبارك وتعالى حتى تتعلق بهم الامة وتهفوا اليهم القلوب، بل زعامة وملك ومصالح واستئثار واستعلاء وقد عبر عنه القوم من اول يوم وهم بعد في السقيفة فكان لسانهم: انما السلطان سلطان قريش فلا ينازعنا فيه احد وكانت المسألة اوضح بالنسبة للاقوام الاخرى التي دخلت الاسلام وقد اشعروهم بان الخلافة ملك للعرب فاذا كان ملكاً عضوضاً وهم المستفيدون منه فما الذي يشد الامة اليهم وما الذي يحثهم عن الدفاع عنهم وما هي العلقة التي تربطهم بهم ؟ بل على العكس سادت روح الكراهية والحقد والانتقام كما حصل لابي لؤلؤة الفارسي غلام المغيرة بن شعبة الذي سأم من كثرة التعيير لقومه الفرس والاستهزاء بهم فثار لعنصريته ولعصبيته الجاهلية.
وبالمقابل كان هناك علي (عليه السلام) وبنوه الذين ملكوا القلوب فاستجاب الله تعالى بهم دعوة جدهم ابراهيم (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) والذي لم تستطيع الخلافة بكل جبروتها ان تنتزعه منهم، وقضية هشام بن عبد الملك واضحة في اذهانكم عندما عجز عن الوصول إلى الحجر لازدحام الناس فتنحى إلى زاوية في البيت الحرام وما ان قدم الامام السجاد (عليه السلام) حتى انفرج عنه الناس سماطين فمشى بكل وقار وهيبة حتى وصل إلى الحجر الاسود وهشام ينظر. وكان امير المؤمنين (عليه السلام) رغم تواضعه بين اصحابه حتى كأنه احدهم الا ان له هيبة عظيمة في نفوسهم كما وصفه ضرار بن حمزة لمعاوية. وذاب اصحابهم في حبهم قربة إلى تعالى ووفاء لجدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعرفاناً لحقهم عليهم وتحملوا في سبيل ذلك ما تقشعر منه الابدان فهذا ميثم بن يحيى التمار تقطع يداه ورجلاه ويصلب على جذع نخلة فيطلب من الناس الاجتماع حتى يحدثهم بفضائل امير المؤمنين B فلم يمهله الفسقة حتى قطعوا لسانه، وهذا حجر بن عدي يؤخذ مقيداً إلى الشام ويحفر له القبر ويفرش له النطع ويؤمر بسب امير المؤمنين والا فالقتل ومعه ابنه فيختار ولاية امير المؤمنين (عليه السلام) ويقدم ابنه ليحتسبه عند الله تبارك وتعالى ولئلا يعظم على الابن قتل ابيه فيتراجع ثم قدم فقتل صابراً محتسباً، وهذا عمار بن ياسر يقاتل في صفين على كبر سنه ويقول: (والله لو ضربونا باسيافهم حتى ابلغونا سعفات هجر لعلمنا اننا على الحق وانهم على الباطل)، وأصحاب الحسين (عليه السلام) وما ادراك ما اصحاب الحسين (عليه السلام) الذين لم ير لهم نظير في الولاء والصدق والاخلاص والتضحية يقدم احدهم على الموت وهو مبتسم فيقال له ما عهدناك هازلاً قبل اليوم؛ قال: وكيف لا ابتسم وما بيني وبين معانقة الحور العين الا ان يميل عليَّ هؤلاء باسيافهم فالتحق بالاحبة محمد وصحبه.
النتيجة السابعة: تأخر ركب الحضارة الانسانية بحيث احتجنا إلى اربعة عشر قرناً لكي نصنع الطائرة والكومبيوتر ونغزو الفضاء وكان يمكن لهذه الامور وغيرها مما لم يصل اليه العقل الانساني إلى الان ان تتحقق قبل مدة طويلة لان اليد الالهية واضحة التأثير في قيادة ركب الحضارة البشرية بفضل ما بثه الانبياء والائمة (عليهم السلام) من علوم أو من خلال الالهام والايحاء ولولا الرعاية الالهية لما استطاع الانسان ان يهتدي إلى ابسط الامور حتى دفن موتاه في التراب لا يعرفه حتى بعث الله له غراباً يبحث في الارض ليريه كيف يواري سوأة اخيه وان القرآن الكريم ليضم اسرار ومفاتيح العلوم كلها فيه (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فيشير إلى غزو الفضاء بالوسائل العلمية (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلا بِسُلْطَانٍ) وهو سلطان العلم والتكنولوجيا كل هذه الاسرار ومفاتيح العلوم كانت عند امير المؤمنين (عليه السلام) علمه اياه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الف باب من العلم ينفتح لي من كل باب الف باب من العلم) وان شئت الاطلاع على ما كان يمكن ان يقدمه على وبنوه (عليهم السلام) ليقدموا ركب الحضارة الانسانية وليوفروا لها السعادة والحياة الطيبة فراجع عدة كتب الفت في هذا المجال ولم يكن يحتاج إلى تطبيق معادلات وقوانين احتمالية أو يخوض تجارب طويلة حتى يصل الحقيقة بل كانت الحقائق العلمية كلها حاضرة في ذهنه يراها بالبصيرة والوجدان رأي العين فحفر الكثير من الابار والعيون واوقفها للمسلمين في وقت كان الاخرون يعجزون عن التعرف على مواقع وجود الماء فاين علم الجولوجيا من هذه المعرفة الدقيقة بطبقات الارض وما تحتها من كنوز ومعادن وكان يقول: (لو شئت لاتخذت لكم من هذا الماء نوراً) يقصد توليد الطاقة الكهربائية من شلالات الماء، وغيرها الكثير في مختلف حقول العلم والمعرفة ثم جاء اولاده من بعده ليبثوا ما تسمح به الحال من علوم الكمياء والرياضيات والفلك والفيزياء والنبات والحيوان وغيرها.
فان قلت: اذن ما الذي حبسهم عن اعطاء هذه العلوم التي يحملونها إلى البشرية وهي مسألة لا تتعلق بتسلمهم موقع القيادة والامامة وعدمها.
قلت: ان التقدم المادي مرتبط تماماً بالتكامل الروحي من خلال البناء الصحيح للعقيدة ولا بد ان يتقدما معاً وان الاول بدون الثاني يصبح وبالاً على البشرية ويقودها نحو الدمار كالذي نشاهده اليوم ممن يسمون انفسهم بالقوى العظمى والدول الكبرى ولما كانت البشرية قد تخلفت وتدنت في الجانب الثاني وهو العقائدي والاخلاقي فلا يمكن اعطاءها من الجانب الاول الا بالمقدار الذي لا يكون خطراً عليها هكذا اقتضت الارادة الالهية ان يلهم الانسان بعض الافكار التي طورت حضارة البشر ودلته على اكتشافات وحقائق علمية مهمة في اوقاتها المناسبة وبالشكل الذي يحفظ توازن المجتمع الانساني (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) ولو كانت مستحقة للمزيد بالتزامها بخط الخلافة الالهية لما بخل عليها الله تبارك وتعالى بالعطاء فلا يغتر الانسان ويظن انه هو الذي يحقق ذلك بل هو من الهام الله تبارك وتعالى وايحائه وللعلماء والمكتشفين كلمات تدل على ذلك ولو خليّ إلى نفسه لما عرف كيف يتخلص من موتاه بالدفن حتى علمه الغراب –كما ذكرنا-.
هذه بعض النتائج التي افرزها عدم التزام الامة بحديث الغدير واذا كانت الامور تعرف باضدادها كما قالوا فيمكن ان نعرف سمو المعاني والاثار التي نالها الملتزمون بولاية امير المؤمنين (عليه السلام) فحق لهم ان يحتفلوا بهذا العيد الاغر اعظم عيد في الاسلام، سئل الامام الصادق (عليه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والاضحى والفطر ؟ قال: نعم، اعظمها حرمة، قال الراوي واي عيد هو ؟ قال: اليوم الذي نصب فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) امير المؤمنين (عليه السلام) وقال: من كنت من مولاه فعلي مولاه) وفي حديث ابي نصر عن الرضا (صلوات الله عليه) قال: (يا ابن ابي نصر اينما كنت فاحضر يوم الغدير عند امير المؤمنين (عليه السلام) فان الله تبارك وتعالى يغفر لكل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة ذنوب ستين سنة ويعتق من النار ضعف ما اعتق في شهر رمضان وليلة القدر وليلة الفطر، ولدرهم فيه بالف درهم لاخوانك العارفين. وافضل على اخوانك في هذا اليوم، وسر فيه كل مؤمن ومؤمنة، والله لو عرف الناس فضل هذا اليوم بحقيقته لصافحتهم الملائكة في كل يوم عشر مرات).
ونحن كما تعودنا في مثل هذه الكلمات لا نستهدف فقط تثبيت العقيدة وترسيخها والدفاع عنها وان كان هذا في نفسه نفيساً الا انه مما لا يقل عنه اهمية اخذ الدروس والعبر منه وهنا تكمن روح العلم والمعرفة فالعلم بلا عمل وبلا استفادة منه في الحياة لا قيمة له ونحن اذ توسعنا في فهم هذا الموضوع فسنطبق هذه التجربة على كل رسالة اصلاحية تعمل على هداية الناس وتكميل نفوسهم كالمرجعية الشريفة وهي لها شكلان:
الأول: المرجعية الفردية التي يقتصر عملها على استنباط الحكم الشرعي من دون العمل على تطبيقه ودفع المجتمع إلى امتثاله والامر راجع إلى المكلف ان شاء طبق أو لا ولا تتدخل الا في حدود الشؤون الفردية وما يبرئ ذمم المكلفين كافراد وهو عمل ليس بالهين وقد قاموا بجهود مضنية حفظت لنا فقه آل محمد صلوات الله عليهم اجمعين لكن هذا الشكل خارج عن موضوعنا لانحسار دورها عن الامامة الاجتماعية اصلاً.
الثاني: المرجعية الاجتماعية التي لا تكتفي بمستوى النظرية أي مجرد التقنين والتشريع وانما تعمل على تهيئة كل الفرص واتخاذ مختلف الاساليب لاقناع الناس بتطبيق الشريعة في كل تفاصيل حياتهم واذا لم تنفع وسيلة جربت اخرى، وقد شبهت الاولى بالام التي تهيئ الطعام لولدها المريض وتترك الباقي عليه ان شاء اكل وان شاء لم يأكل وقد لا يعرف مصلحته فيموت جوعاً. والثانية تشبه الام التي لا تكتفي باعداد الطعام بل تطيبه وتعمل كل المرغبات والمحفزات لولدها كي يأكل ويحفظ حياته ويستعيد عافيته ولا شك ان الثانية ارحم وأرأف واكرم واصبر من الاولى أو قل انها اكثر اتصافاً بالاسماء الحسنى التي ورد الحث على التخلّق بها.
وهذه المرجعية الثانية هي الاكثر التصاقاً بالناس واعمق تأثيراً فيهم والاكثر تعلقاً بهم وهي الاجدر بتمثيل دور المعصومين (عليهم السلام) فلا غرو ان تكون عرضة لطمع المتنافسين فاذا تصدى لها غير المؤهل لها وصنع (سقيفة) ثانية لابعاد مستحقيها ترتبت كل أو بعض الاثار التي ذكرناها ولا بد ان نستفيد من تلك التجربة لنكون واعين وحذرين من تكرارها وقد ذكرنا في محاضرتين بمناسبة عيد الغدير عام 1421 -وطبعت كمقدمة لكتاب اصل الشيعة واصولها للشيخ كاشف الغطاء- الاشكال الثلاثة التي خطط بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للخليفة من بعده وكيفية تأسي المرجعية به (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المجال ومسؤولية الامة في صيانة هذا الموقع الشريف والتمسك بأهله فيكون هذا البحث مكملاً له ومما ذكرنا هناك ان لهذا الموقع شروطاً صنفتها إلى ثابتة ومتحركة والاولى هي التي دأبت على ذكرها الرسائل العملية اما المتحركة فتتغير تبعاً للظروف الموضوعية التي تعيشها المرجعية.
اللهم انا نشهدك
انا ندين بما دان به محمد وآل محمد صلى الله عليه وعليهم
وقولنا ما قالوا وديننا ما دانوا به، ما قالوا به قلنا وما دانوا به دنا وما انكروا انكرنا ومن والوا والينا ومن عادوا عادينا ومن لعنوا لعنا ومن تبرأوا منه تبرأنا منه ومن ترحموا عليه ترحمنا عليه
آمنا وسلمنا ورضينا واتبعنا موالينا صلوات الله عليهم،
اللهم فتمم لنا ذلك ولا تسلبناه واجعله مستقراً ثابتاً عندنا ولا تجعله مستعاراً وأحينا ما احييتنا عليه وامتنا اذا أمتنا عليه،
آل محمد أئمتنا فبهم نأتم واياهم نوالي وعدوهم وعدو الله نعادي فاجعلنا معهم في الدنيا والآخرة ومن المقربين فانا بذلك راضون يا ارحم الراحمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
المفضلات