[frame="8 80"]كلمات ومشاعر بحق الرئيس
د. جورج حبش
لقد رحل أبو عمار، وغاب عن ساحة النضال، غاب عن الدنيا وهو شاغلها... غاب عن فلسطين التي أحبها وأحبته ولم يزل المسير نحوها لم يتوقف ولم يزل شلال الدم الفلسطيني يتدفق على أرضها وأوديتها وهضابها... ولم تزل المقاومة الفلسطينية تقاوم وتعاند إملاءات القوة والبطش والجبروت الاميركي والصهيوني.
هي وحدها لحظات الرحيل الابدي... التي تترك صدق المشاعر، ونيل المقاصد... مشاعر الحزن على قائد ترك بصماته واضحة على مسار قضيته فلسطين... مشاعر تخلو من حسابات ومعايير السياسة ومعاركها... فنحن اليوم نفتقد مناضلا مثابرا، وقائدا وسياسيا ورمزا ورئيسا للشعب الفلسطيني كرّس شبابه وعمره كله في النضال ومقاومة الاحتلال الصهيوني وفي خدمة قضايا وطنه وشعبه... نفتقد قائدا كان حتى الامس يشكل ركنا حيا من اركان الرواية الفلسطينية بطبعتها المعاصرة.
إن تاريخ الرجل بنضاله يندغم بتاريخ القضية، كما اندغم تاريخ المجاهد القسام والحسيني وابو جهاد وغسان كنفاني وابو علي مصطفى وأحمد ياسين والرنتيسي وفتحي الشقاقي وابو العباس وكل قيادات الشعب الفلسطيني التي رحلت في صفحات التاريخ الفلسطيني. اندغم تاريخه... نضاله... بفلسطين ليعطيها سفرا مضافا، وصفحات جديدة... تحكي الرواية... لقد شكل بنضاله ورمزيته فصلا كاملا من التغريبة الفلسطينية طيلة اربعين عاما من النضال.
إن للشهداء والمناضلين الراحلين حقاً علينا. ان نذكر محاسنهم، <<اذكروا محاسن موتاكم>> وفاء لهم. وعهدا قطعناه معهم بأن تستمر المسيرة... فقد اعطى ابو عمار جل جهده لفلسطين ولشعبه. اربعون عاما ثابر فيها، وقاتل وقاوم، وصارع، وقاد الشعب الفلسطيني من محطة الى محطة، ومن زمن الى زمن، ومن موقف الى موقف، وظل صامدا في وجه المطالب الاميركية والصهيونية بدفن القضية ووأد حق العودة.
إنها لحظات يستذكر المرء فيها تلك التجربة الطويلة المريرة والمتعرجة من النضال الوطني الفلسطيني المعاصر وهو على رأسها... شريط الاحداث لا ينقطع من بث الصور والمشاهد وتداعيات الاحداث... منذ الرصاصة الاولى... وتفجير الثورة المعاصرة... ومعركة الكرامة، ورحيل الثورة من الاردن بعد معارك ايلول وجرش وعجلون... والحرب في لبنان... واجتياح بيروت، والصمود الفلسطيني طيلة 88 يوما... ورحيل الثوار في مشهد سريالي وهم مجللون بأكاليل الغار ودموع المظلومين والمقهورين تودعهم على شواطئ بيروت... انتفاضة فلسطين الاولى... والانزلاق الاخير نحو اوسلو... وانتفاضة الاقصى التي تحولت الى مقاومة لم تزل جذوتها لم تنطفئ، كان مشهدها الاخير حصار الرجل لوقف دوره ونضاله في قلعة <<المقاطعة>>. شريط من الاحداث لا يتوقف... حيث محطات العمل السياسي كثيرة... فقد كان ابو عمار حاضرا وفاعلا ورابط الجأش بكل رمزيته وكوفيته وحيويته ومثابرته طيلة هذا الشريط من التجربة الطويلة.
وأسأل نفسي من كان يستطيع ان يعبر هذه التجربة الطويلة، وهذه المحطات السياسية والعسكرية التي تقاطعت فيها حروب الاعداء التي لم تتوقف مع المؤامرات السياسية التي لم تزل، مع العجز والصمت العربي الرسمي...! على مذابح الشعب الفلسطيني طيلة عقود...! لقد عبرها ابو عمار مع شعبه الفلسطيني وفصائل الثورة الفلسطينية دون ان تلين له قناة او تضعف عزيمته.
كان رفيق درب، وقائد ثورة، ورئيس سلطة، حيث اختلفنا كثيراً، وتوافقنا كثيراً، وتوحدنا وتباعدنا، وتقاربنا، لكنها فلسطين وحدها كانت الوسيط الأهم لتوحدنا المرة تلو المرة... حيث هي الغاية والهدف، فقد كانت فلسطين بثورتها وشعبها وشهدائها وأسراها اكبر من اي خلاف او تنافر فقد كانت فلسطين هي الروح التي نستمد منها العزم والتصميم والالتحام والتوحد.
ورحل الرئيس المناضل... ولم تزل فلسطين هي الموحد القوي لقوى شعبنا الفلسطيني وأطيافه وشرائحه في قراه ومدنه ومنافيه.
في هذه المناسبة الأليمة عليّ وعلى شعبنا... علينا ان نتحلى بالشجاعة والإرادة والتصميم ونردد امام عدونا الصهيوني وكل من يتربص بنا شراً وضرراً كلمة أستعيرها من الأخ ابو عمار... <<يا جبل ما يهزك ريح>>، فلن تؤثر في صمودنا هوائل الزمن، ولن ينال من عزيمتنا غياب القادة ورحيل الرموز... بل هي مناسبة لتحويل احزاننا الى افعال وبرامج ومواصلة للنضال وتوهج للابداع الفلسطيني في تجاوز مصاعبه.
يجب علينا ان نحول رمزية الشهيد ابو عمار، الى <<رمزية وقدسية فلسطين>>... و<<رمزية المؤسسة>> التي لا ترحل... فاشتقاق النموذج الفلسطيني في النضال والقيادة والسلطة يجب ان يتمظهر بصور حية عبر قدرة شعبنا على تجاوز شدائده ومحنه... فالشعب الفلسطيني اليوم هو احوج ما يكون إلى الوحدة الوطنية، ورص الصفوف ومغادرة مواقع الخلاف والتنافر... والسير موحدين عبر هذا الماراتون الفلسطيني الطويل الذي لم نقطعه بعد... وهو امر يفرض ويستوجب من القوى الوطنية والاسلامية والسلطة الفلسطينية ان تعمل وتبحث عن الصيغ الممكنة والمناسبة لقيادة الشعب الفلسطيني وقواه وفصائله وانتفاضته الشعبية.
على شعبنا ان ينظم صفوفه وأفعاله وسياساته وتكتيكاته عبر مؤسساته الوطنية التي بناها بدماء الشهداء وجهد المناضلين والقادة.
إن مفصلاً هاماً وضرورياً في رؤيتنا الاستراتيجية وتكتيكنا الوطني يجب ان يتوضح عبر الحفاظ على دور ووظيفة م.ت.ف. هذا الدور الذي حدده الميثاق الوطني الفلسطيني في سياق الرؤية الفلسطينية للصراع العربي الصهيوني... الامر الذي يستلزم الوعي الاستراتيجي لأهمية إعادة الاعتبار ل م.ت.ف. وبنائها على أسس سياسية وديموقراطية كي تتحمل المسؤولية التاريخية في قيادة نضال الشعب الفلسطيني على المستوى العالمي... وكي تبقى الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا والذي مثلته طوال ثلاثين عاما واكثر امام العالم بدوله ومؤسساته ورأيه العام.
أيها الرئيس، والأخ، ورفيق الدرب... لقد اعطيت الكثير، الكثير لشعبك ووطنك وفلسطينك... وحولت قضية شعبك من قضية إنسانية الى قضية سياسية مشروعة وحق وطني مسلوب امام كل المؤسسات الدولية... واجتهدت وأصبت... كما اجتهدت وأخطأت... ولك ما لك وعليك ما عليك، غير ان التاريخ يسجل لك ان فلسطين كانت حلمك، والدولة الفلسطينية كانت هاجسك ومسعاك وقبلتك، وكنت رابط الجأش تردد دائماً امام الصعاب والحصار <<يا جبل ما يهزك ريح>>.
ونحن اليوم إذ نودعك نعاهدك ونعاهد كل الشهداء ان فلسطين ستبقى الحلم والبوصلة التي لن تحرف المسار.
أيها الرئيس الراحل... انها لحظات قاسية على شعبنا امام مشهد الوداع الأبدي فقد كنت اكبر من الحصار... ولم يستطع ان يفك حصارك احد...! لكنه وحده الموت الذي فك حصارك...!
فسلاماً على روحك الطاهرة... وسلاماً لكل أرواح الشهداء.
() مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
رمز لجيل أسس مدرسة في الثورة
أحمد جبريل
تختلف معه، او تتفق، فقد كان ياسر عرفات، منذ البدايات، مرحلة العمل السري وما بعدها.. من أهم رموز الثورة الفلسطينية المعاصرة، سواء في تأسيس النواة الاولى لحركة <<فتح>>، او على الساحة الفلسطينية عموما، كانت شخصية عرفات تتميز عن أقرانه وكل الزملاء.. له اسلوبه، له طريقته، له نهجه الذي عرف باسمه، واستمر عليه بالرغم من السنين والمحطات المهمة في مسيرة الثورة الفلسطينية.
منذ لقاءاتنا الاولى، في مرحلة العمل الفلسطيني السري، كان عرفات يميل الى الامساك بمفاتيح العمل على كل صعيد.. وكان ذلك محل نقاش ومجادلة وفي كل مرة كان على قناعة بأن الظروف تفرض عليه ذلك حتى عندما كبر العمل المقاوم الفلسطيني وتوسع وانتشر، وصارت الحاجة الى المؤسسات ملحة وضرورية.. كان عرفات يمسك بكل هذه المؤسسات او مفتاح تشغيلها او تعطيلها.
يعرف الجميع أننا على طرفي نقيض، ليس من منطلق خلاف شخصي، لا سمح الله، بل بالنظرة المختلفة لمسار الثورة وأدائها، واحتدم التناقض عندما طرحت التسوية السياسية بعد حرب 1973 ثم مؤتمر مدريد.. ونقطة الخلاف دائما، كانت فلسطين.
عندما وافق عرفات على اتفاق اوسلو 1993 كان وقع ذلك شديد الوطأة على الساحة الفلسطينية.. وعلى مسار المقاومة الفلسطينية، خاصة ان ذلك جاء بعد انتفاضة استمرت سبع سنوات قدم خلالها شعبنا كل تضحيات لا يمكن لشعب ان يقدمها، وتحمّل ما لا يمكن ان يتحمله شعب عندها.. كان التصور.. ان عرفات سيصطدم في النهاية بالجدار المسدود تنازعا مع شخصيته وطبيعة العدو الذي كشفت الايام والأحداث انه يريد ان يأخذ، وليس مستعدا، أبدا، للاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في ارضه.
اصطدم <<حلم>> الأخ ابو عمار الذي كان قد ضخمه له السادات وبعض الانظمة العربية والدولية.. بواقع يقتل ويحصد شعبنا امام عيون العالم، ويدمر الدور، ويقلع الشجر، ويبني المستوطنات بينما تتكاثف الضغوط عليه ليعطي المزيد من التنازلات، فلا لحق العودة، ولا للقدس ولإ لإزالة المستوطنات ولا للمسجد الاقصى الذي كان يمنّي النفس بالصلاة فيه.
وأكثر من ذلك، كان المطلوب ما هو أخطر: ان تتولى السلطة <<إنهاء>> المقاومة و<<إنهاء>> الانتفاضة.. وازداد تنازع الشخصية داخل الأخ ابو عمار.. وعندما فرض عليه ان يكون نزيل <<المقاطعة>> وأسير شارون أراد عرفات ان يثبت لنفسه قبل الآخرين.. انه لن يخطو رغم كل المناورات التي كان يجيدها الى مزيد من <<التنازلات>>.
نزيل المقاطعة بدأ يسترد مع كل يوم جديد ذكرى كل يوم في مسيرة المقاومة.. ومسيرة الشهداء، ومع الاستذكار بدأ التوازن يعود الى الخطوات.. وساعد على ذلك كشف العدو اوراقه.. خاصة عندما وصل شارون الى السلطة، ليس كشخص وفكر صهيوني فحسب، بل بدعم يهودي أشار تماما إلى الاتجاه الحقيقي لغلاة الصهيونية.
تفجر انتفاضة الاقصى، وسنوات الاخ ابو عمار في المقاطعة بعد مفاوضات كامب ديفيد الفلسطينية، جعلت الجميع يعيد حساباته دون رغبة في المحاسبة، ما جعلني أبادر الى وصل ما انقطع وكنا، ابو عمار وأنا، في منتهى السعادة لأننا نتطلع الى المستقبل.
وسرت من جديد حرارة الرغبة بالحوار الفلسطيني الفلسطيني وإن كانت بداياته لا تحمل الا الاسم.. الا انه فتح باب التواصل الذي كنا، وما نزال نرغب، كما كل الشعب الفلسطيني.. في تحوله الى حوار جدي، يفضي الى نتائج من شأنها ان تشكل رافعة لوضعنا الفلسطيني كله، وأن تتيح بمشاركة الجميع ايضا.
الاخ ابو عمار، تختلف معه او تتفق، شكل في تاريخ ثورتنا الفلسطينية المعاصرة رمزا لجيل فلسطيني كبر ما بعد نكبة 1948 ولم يقبل بالامر الواقع واجتهد، وأسّس مدرسة في الثورة، أخطأ ام أصاب، لكنه جيل استطاع ان يستمر ليسلم الراية لجيل الانتفاضة في ظل ظروف قاسية، وضاغطة عربيا ودوليا.. لكن العالم كله، بما فيه شارون.. بات يعرف أن الفلسطينيين لن يرضوا بحقهم ناقصا.
عندما نودع الأخ ابو عمار نتذكر مناضلا أفنى حياته من اجل وطنه، ونتذكر تاريخا، سيزيدنا إصرارا وتمسكا بعدالة قضيتنا، ويزيدنا قوة في مواجهة تيارات انهزامية قد تبرز.
رحمه الله ورحم الله المجاهدين
() الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة.
[/frame]




رد مع اقتباس
المفضلات