[align=center]
وهذه بشارة أخرى لعلي بن أبي طالب، ومنقبة عظمى تضاف إلى مناقبه، أنه من رسول الله بمنزلة هارون وموسى.
كان علي بطلاً للمواجهة يؤدب به الرسول عليه الصلاة والسلام أعداء الله، كان الرسول ينتدبه كلما انتدب رجلاً لمواجهة الموت.
في بدر، وقبل احتدام المعركة، دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام أبطال المسلمين، ليبارزوا أبطال الكفر، فقال: أين علي بن أبي طالب، قال: ها أنا يا رسول الله، فخرج، وبارز قرنه الوليد بن عتبة، فقتله علي، ثم اشتبك مع الكفار في صراع دام، فقتل منهم مقتلة عظيمة.
كان يقرأ القرآن فقرأ قوله تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم [الحج:19]. فبكى وقال: أنا أحد الخصمين يوم القيامة، وذلك لأنه كان خصماً للكفر والوثنية والإلحاد، أما الوليد وأمثاله، فيبعثون يوم القيامة خصوماً للإسلام والتوحيد والحق والعدل، ثم يفصل الله عز وجل بين الفئتين يوم القيامة ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].
وتتكرر المسألة مع علي بن أبي طالب في الأحزاب، فيحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصاراً دامياً من مشركي العرب واليهود، والقوميين الخونة، والنصارى، والمنافقين، ويأتي بطل من أبطال الكفر، اسمه عمرو بن ود، فيدعو المسلمين للمبارزة، فيقول: من يبارز أيها المسلمون؟! فيسكتون، من يتقدم ليبارزني أمام الجماهير؟ فلا يبرز أحد، ولكن علياً لا يرضى بذلك، فيقول: أنا يا رسول الله، يحب المواجهة، دائماً روحه على كفه، يقدمها رخيصة لنصرة الدين، وإعلاء راية التوحيد.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجواراً
فقال عليه الصلاة والسلام: إنه عمرو بن ود!! قال: ولو كان عمرو بن ود، فنزل له علي وتبارز البطلان، بطل الإسلام، وبطل الكفر، وبرقت السيوف، وارتفع الغبار، وكان عليه الصلاة والسلام يدعو الله لينصر علياً، وانجلى الغبار، وإذا بعلي واقف على صدر عمرو، وقد قطع رأسه، وسيفه يقطر دما، فكبر الرسول عليه الصلاة والسلام، الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. وكبر معه المسلمون، إنه بطل المواجهة.
وفي البخاري، في كتاب الرقاق، قال علي بن أبي طالب وأرضاه: إن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، فكونوا من أبناء الآخرة، ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل[5].
كان فقيراً لا يملك قليلاً ولا كثيراً، تولى الخلافة خمس سنوات، كانت كلها مواجهة؛ واجه الخوارج وأدبهم، وواجه المتمردين وطاردهم، وواجه البغاة وشتتهم، فحياته كلها مواجهة، قلبه مجروح وجسمه مجروح، وعرضه مجروح من أهل النفاق والريبة.
لقي علي طلحة في الجمل، في ذاكم الصراع الذي نكف عنه، ونكل أمرهم فيه إلى الله، ونسأله تبارك وتعالى أن يجمعنا بهم في دار كرامته، قتل طلحة في هذه الفتنة، ورآه علي مجندلاً في دمائه، فنزل، ومسح التراب من على وجهه، وبكى طويلاً، وقال: اسأل الله أن جعلني وإياك ممن قال فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين [الججر:47].
تولى علي الخلافة خمس سنوات، ولكنه ظل فقيراً، لم يشبع ولو يوماً واحداً، رجع إلى أهله ذات يوم، فقال: عندكم طعام؟ قالوا: لا !! عندكم شيء؟ قالوا: لا!! فخرج بسيفه الذي هو سيف الرسول واسمه ذو الفقار، فوقف أمام أهل العراق يقول لهم: قاتلكم الله يا أهل العراق، أموت أنا وأسرتي جوعاً، وهذا سيف الرسول معي، ولطالما جلّيت به الكربات عن وجه رسول الله ثم قال: من يشتريه مني بطعام ليلة!!.
لا يجد قوت يومه وهو الذي ذهب إلى بيت المال، وكان مملوءاً بالطعام والمال والسلاح، فوزع ما فيه في يوم واحد، ورش عليه الماء، وصلى ركعتين، وقال: اللهم اشهد أني ما أبقيت لنفسي منه درهماً ولا ديناراً، ولا حبة ولا تمرة ولا زبيبة.
مرض علي قبل أن يموت فعاده أبو فضالة الأنصاري، وقال له: ما يقيمك بهذا المنزل، ولو هلكت به، لم يلك إلا أعراب جُهينة، فلو دخلت المدينة، كنت بين أصحابك، فلو أصابك ما تخاف، أو نخاف عليك، وليك أصحابك، وكان أبو فضالة من أهل بدر، فقال علي: إني لست ميتاً من مرضي هذا، إنه عهد إلي النبي أني لا أموت حتى تخضب هذه من هذه[6]، يعني تخضب لحيته من صدغه .
عاش بطلا، وأسلم بطلاً، وجاهد بطلاً، ومات بطلاً، ويبعث إن شاء الله بطلاً.
علو في الحياة وفي الممات بحق تلك إحدى الكرمات
كان يقول : متى يبعث أشقاها ! يشير إلى قول النبي : ((إنك ستضرب ضربة هاهنا وضربة هنا، وأشار إلى صدغه، فيسيل دمها حتى تخضب لحيتك، ويكون صاحبها أشقاها، كما كان عاقر الناقة، أشقى ثمود))[7].
خرج علي قبل صلاة الفجر ليوقظ المسلمين للصلاة، ثم دخل المسجد، فوجد عبد الرحمن بن مُلْجم الخارجي المارد الخبيث، وجده منبطحاً على بطنه، وقد جعل سيفه مما يلي الأرض مسلولاً، فركله علي برجله وقال: لا تنم على بطنك، فإنها نومة أهل النار، وافتتح علي ركعتين، فوثب عليه الخارجي عدو الرحمن، فضربه بالسيف على صدغه فانفلق، فقال علي: الله أكبر.. لله الأمر من قبل ومن بعد، فسقط على وجهه، وسالت لحيته دماءً غزيراً، وحمل إلى البيت، وبكى المسلمون جميعاً، كل الرجال والنساء، والشيوخ والأطفال، وتحولت بيوت المسلمين إلى مناحات، يبكون بطل المواجهة.
قامت عجوز تبكي، وتعبر عن جراحها وأساها، فقالت بيتاً من الشعر، فيه لوعة وأسى وحرقة على هذا البطل العظيم، قالت:
يا ليتها إذ فدت عمراً بخارجةٍ فدت علياً بمن شاءت من البشر
تقول: يا ليت المنية، يوم تركت عمرو بن العاص، وأصابت خارجة رئيس الشرطة، وقتل خارجة وسلم عمرو وكان هو المقصود بالقتل، يا ليتها تركت علياً وأصابت من شاءت من البشر.
أبا حسن لهفي لذكراك لهفة يباشر مكواها الفـؤاد فينضـج
متى تستعيد الأرض جمالها فتصبح فـي أثـوابهـا تتبهـرج
عفاءٌ على دنيا رحلت لغيره فليـس بهـا للصـالحين معـرّج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
قتل علي بن أبي طالب، وقد كان ينتظر الموت، وينتظر الشقيّ الذي سيقضي عليه، وكان دائماً يتمثل بهذين البيتين:
اشدد حيازيمك للموت فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت فإن الموت آتيكا
أيها المسلمون:
لماذا نتحدث اليوم عن علي بن أبي طالب؟ لماذا نخصّ اليوم علي بن أبي طالب؟.
إننا نتحدث عن علي بن أبي طالب في هذا اليوم، لأنه بطل المواجهة، ونحن نفتقر إلى المواجهة، لا نتحمل المواجهة، أمة سلمت قيادها لغيرها، أمة سُحقت كرامتها، لأنها لا تملك بطلاً للمواجهة.
أمة أصبح القرار بيد غيرها لأنها لا تقوى على المواجهة.
إن علي بن أبي طالب قدوة لكم أيها الشباب، وأستاذ لكم أيها الأطفال، وهو شيخ للشيوخ، وبطل للأبطال.
إن علي بن أبي طالب يكفيه أنه يحب الله ورسوله، وأن الله ورسوله يحبانه.
سلام عليك يا علي بن أبي طالب، يوم أسلمت، ويوم هاجرت، ويوم بايعت، ويوم قتلت، ويوم تبعث حياً.
عباد الله:
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم. [/align]
المفضلات