إنّ هذه الرواية تدلّنا بوضوح لا يقبل الشكّ في أن زواج النبي (صلى الله عليه وآله) من حفصة بنت عمر لم يكن عن محبّة، ولكنّه لمصلحة سياسية اقتضتها الظروف.

وممّا يزيدنا يقيناً بصحّة ما ذهبنا إليه في هذا الاستنتاج أنّ عمر بن الخطاب يُقسمُ بالله بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحبّ حفصة ويزيدنا عمر يقيناً جديداً بأنّ ابنته حفصة تعلم هي الأخرى هذه الحقيقة المؤلمة، إذ يقول لها: «والله لقد علمت بأنّ رسول الله لا يحبّك».

ثم لا يبقي لنا أدنى شكّ في أنّ الزواج منها كان لمصلحة سياسيّة عندما قال: «ولولا أنا لطّلقك رسول الله (صلى الله عليه وآله)».

فهذه الرواية تعطينا أيضاً فكرة على زواج النبيّ (صلى الله عليه وآله) بعائشة بنت أبي بكر، وأنّه صبر وتحمّل كل أذاها من أجل أبي بكر أيضاً، وإلاّ فإنّ حفصة أولى بحبّ الرسول وتقديره، لأنّه لم يصدر منها ما يسيء للنبي (صلى الله عليه وآله) عشر معشار ما فعلته عائشة بنت أبي بكر.

وإذا بحثنا في الواقع العملي بقطع النّظر عن الروايات الموضوعة الّتي نمّقها بنو أميّة في فضائل عائشة لوجدنا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان كثيراً ما يتأذّى منها وكثيراً ما يغضب عليها، وها نحن ننقل رواية واحدة أخرجها البخاري وكثير من المحدّثين من أهل السنّة، تعرب عن مدى النفور الذي كانت تشعر به أم المؤمنين عائشة من قبل زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله).

أخرج البخاري في صحيحه في الجزء السابع في باب قول المريض إنّي وجع، أو وارأساه.

قال: سمعت القاسم بن محمد قال قالت عائشة: وا رأساه! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ذاك لو كان وأنا حيّ فأستغفر لك وأدعو لك» فقالت عائشة: واثكلياه، والله إنّي لأظنّك تحبّ موتي، ولو كان ذاك لظلت آخر يومك معرِّساً ببعض أزواجك (26).

فهل تدلّك هذه الرواية على حبّ النبيّ لعائشة؟؟

ونخلص بالأخير إلى أنّ بني أميّة وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان، يبغضون رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومنذ أن آلت إليهم الخلافة عملوا على تقليب الحقائق ظهراً على عقب، ورفعوا أقواماً إلى القمّة من المجد والعظمة بينما كانوا في حياة النبيّ أناساً عاديّين وليس لهم شان كبير، ووضعوا آخرين كانوا في قمة الشرف والعزّ أيام النبيّ (صلى الله عليه وآله).

وأعتقد أنّ ميزانهم الوحيد في الرفع والوضع هو فقط عداؤهم الشديد وبغضهم اللاّمحدود لمحمد وأهل بيته علي وفاطمة والحسن والحسين، فكل شخص كان ضد الرسول (صلّى الله عليه وآله) وضد أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً رفعوا من شأنه واختلقوا له روايات وفضائل وقرّبوه وأعطوه المناصب والعطايا فأصبح يحظى بتقدير النّاس واحترامهم.

وكل شخص كان يحب الرسول (صلى الله عليه وآله) ويدافع عنه، عملوا على انتقاصه وخلق المعايب الكاذبة له واختلاق الروايات التي تنكر فضله وفضائله.

وهكذا أصبح عمر بن الخطاب الذي كان يعارضه في كل أوامره حتّى رماه بالهجر في أواخر أيام حياته (صلى الله عليه وآله). أصبح هذا الرجل هو قمّة الإسلام عند المسلمين زمن الدولة الأمويّة.

أمّا علي بن أبي طالب الذي كان منه بمنزلة هارون من موسى والذي يحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسولُه والذي هو ولي كلّ مؤمن أصبح يلعنُ على منابر المسلمين ثمانين عاماً.

وهكذا أصبحت عائشة الّتي جرّعت رسول الله الغصص وعصت أوامره كما عصت أمر ربّها، وحاربت وصيّ رسول الله وتسبّبت في أكبر فتنة عرفها المسلمون والتي قُتل فيها الآلف المسلمين، أصبحت هذه المرأة هي أشهر نساء الإسلام وعنها تؤخذ الأحكام ـ أمّا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين التي يغضب ربّ العزّة لغضبها ويرضى لرضاها، أصبحت نسياً منسيّاً ودفنت في الليل سرّاً بعد ما هددّوها بالحرق وعصروا على بطنها بالباب حتى أسقطت جنينها ولا أحد من المسلمين من أهل السنّة يعرف رواية واحدة تنقلها عن أبيها.

وهكذا أصبح يزيد بن معاوية وزياد بن أبيه وابن مرجانة وابن مروان والحجّاج وابن العاص وغيرهم من الفسّاق الملعونين بنص الكتاب على لسان نبي الله. نعم أصبح هؤلاء أمراء المؤمنين وولاّة أمورهم ـ أمّا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة وريحانتا النبي من هذه الأمّة، والأئمة من عترة الرسول الذين هم أمان الأمة، أصبحوا مشرّدين مسجونين مقتولين مسمومين.

وهكذا أصبح أبو سفيان المنافق الذي ما وقعت حربٌ ضدّ الرّسول إلاّ وكان هو قائدها، أصبح محموداً مشكوراً حتّى قيل من دخل داره كان آمناً أمّا أبو طالب حامي النبي وكفيله والمدافع عنه بكل ما يملك، والذي قضى حياته مناوئاً لقومه وعشيرته من أجل دعوة ابن أخيه حتّى قضى ثلاث سنوات في الحصار مع النبيّ في شعب مكة وكتم إيمانه لمصلحة الإسلام أي لإبقاء بعض الجسور مفتوحة مع قريش فلا يؤذون المسلمين كما يريدون ـ وذلك كمؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه. أما هذا فكان جزاؤه ضحضاح من نار يضع فيها رجله فيغلي منها دماغه، وهكذا أصبح معاوية بن أبي سفيان الطليق بن الطّليق واللعين بن اللعين ومن كان يتلاعب بأحكام الله روسوله ولا يقيم لها وزناً ويقتل الصلحاء والأبرياء في سبيل الوصول إلى أهدافه الخسيسة ويسبّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) على مرأى ومسمع من المسلمين (27)، أصبح هذا الرّجل يسمّى كاتب الوحي ويقولون بأن الله إئتمن على وحيه جبرئيل ومحمداً ومعاوية وأصبح يوصف بأنه رجل الحكمة والسياسة والتدبير.

أما أبو ذر الغفاري الذي ما أقلّت الخضراء ولا أظلت الغبراء أصدق ذي لهجة منه، فأصبح صاحب فتنة يضربُ ويشرّد ويُنفى إلى الربذة وأمّا سلمان والمقداد وعمّار وحذيفة وكل الصحابة المخلصين الذين والوا عليّا وتشيّعوا له فقد لا قوا التعذيب والتشريد والقتل.

وهكذا أصبح أتباع مدرسة الخلفاء وأتباع معاوية وأصحاب المذاهب الذين أوجدتهم السلطة الجائرة، أصبحوا هم أهل السنّة والجماعة وهم

الذين يمثّلون الإسلام ومن خالفهم كان من الكافرين. ولو اقتدى بأئمة أهل البيت الطيبين الطاهرين.

أمّا أتباع مدرسة أهل البيت الذين اتّبعوا باب مدينة العلم وأول النّاس إسلاماً ومن كان الحق يدور معه حيث دار، وتشيّعوا لأهل البيت واتّبعوا الأئمة المعصومين، أصبحوا هم أهل البدعة والضلالة ومن خالفهم وحاربهم كان من المسلمين * فلا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم وصدق الله إذ يقول: «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون» [سورة البقرة: الآية 13].

وإذا رجعنا إلى موضوع حبّ الرسول صلّى الله عليه وآله لعائشة لأنها حفظت عنه نصف الدّين وكان يقول خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء، فهذا حديث باطل لا أساس له من الصّحة ولا يستقيم مع ما روي عن عائشة من أحكام مضحكة مبكية يتنّزه عن ذكرها رسول الله (صلى الله عليه وآله). ويكفينا مثلاً على ذلك قضية رضاعة الكبير التي كانت ترويها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي أخرجها مسلم في صحيحه ومالك في موطّأه والتي وافينا البحث فيها في كتابنا «لأكون مع الصادقين» فمن أراد التفصيل والوقوف على جلية الأمر فليراجعه.