التجنيس السياسي عنوان اللعبة في البحرين
د. سعيد الشهابي[]

بعد خمسة أشهر من "الانفتاح" في البحرين وما صاحبه من تفعيل لقدر من الحوار السياسي والفكري يمكن ملاحظة تنوعات عديدة في الأطروحات وأنماط العمل لدى شرائح المجتمع البحريني. وبرغم هذا التنوع والتعدد فإن بالإمكان تصنيفها إلى نوعين: أحدهما ينطلق على أساس مقولة أن الأهداف التي طرحتها المعارضة قد تحققت، بينما ينطلق الآخر على أساس من القناعة بأن تلك الأهداف لم تتحقق بعد وأن هناك مشوارا طويلا ينبغي قطعه قبل الوصول إلى مرحلة استقرار العمل السياسي. ويمكن القول أيضا أن التنوع سببه الخلفيات النضالية للرموز السياسية ومدى توفر شخصياتها على منطلقات "ثورية" راسخة. فقد لوحظ في الأسابيع الأخيرة نزوع لطرح قضايا كبيرة يعبر الاهتمام بها عن نضج في تفكير النشطاء السياسيين والساحة الشعبية.
الذين يعتقدون (من الناحية العملية) بأن المطالب قد تحققت أصبحوا يتعاطون مع القضايا التي تناسب مرحلة ما بعد الاستقرار السياسي وإن كانت موضع اختلاف بين الفئات السياسية ذات المنطلقات الفكرية المتباينة. أما الذين يرون أن الطريق نحو الإصلاح السياسي لم يصل إلى نهايته بعد فيسعون لتعبئة الطاقات للضغط باتجاه الوصول إلى الأهداف النهائية للعمل النضالي الممتد في تاريخ البلاد إلى سبعة عقود متواصلة. ولتوضيح ذلك يمكن طرح عدد من الشواهد مما تحفل به الساحة البحرينية هذه الأيام. فقد لوحظ توجه بعض قطاعات التيار الإسلامي للتركيز على قضايا مثل تطبيق الشريعة ومنع الخمور وفك الارتباطات مع التيارات العلمانية. وفي المقابل أثارت شخصيات محسوبة على التيار العلماني قضايا مثل التخويف من الإسلاميين وأطروحاتهم والتهجم على بعض رموزهم الدينية وبحث قضايا تثير حفيظتهم تتعلق بالقوانين الشخصية والقيم الأخلاقية. ويمكن اعتبار هذا النمط من الممارسة تعبيرا عن قناعة (في اللاشعور على الأقل) بأن الوضع السياسي قد استقر تماما وأنه لم تعد هناك مطالب في ما يتعلق بالحقوق السياسية والمدنية، وأن الوقت قد حان لقطف الثمار والتسابق لتحقيق المكاسب وتسجيل المواقف. أما الذين يعتقدون بأن المرحلة النضالية لم تنته بعد وأن هناك استحقاقات عديدة يجب العمل من اجلها فلديهم اطروحات من نوع آخر. ويقول هؤلاء أن التعاطي الجاد من قبل الحكومة اقتصر حتى الآن على حل المشكلة الأمنية متمثلة بسجناء الرأي والمبعدين قسريا وقانون أمن الدولة ومحكمة أمن الدولة، وأن هذا التعاطي كان بسبب رغبة الحكومة في تخفيف الضغوط الخارجية من المنظمات الحقوقية والجهات السياسية. بينما لا تزال القضايا السياسية الأساسية غير محسومة. فبرغم مرور أكثر من عامين على طرح مشروع الانتخابات البلدية لم يحدد لها موعد ولم يطرح مشروعها بشكل نهائي بعد. كما لم يحدد موعد لإعادة العمل بدستور البلاد المعلق منذ العام 1975 وبالتالي فما تزال الممارسة البرلمانية حلما يراود الجميع. ويرى هذا الفريق (وهم قلة في خضم بحر هائج من العمل المهرجاني المتواصل) أن من الضروري المحافظة على الوحدة الوطنية كإطار للعمل السياسي في المرحلة الراهنة على الأقل، وأن أي تفريط بها من شأنه أن يؤدي إلى وأد قوة عملاقة قادرة على فرض التغيير.
القلق هو عنوان المرحلة. هذا ما يتضح من الحديث مع النشطاء وغيرهم. يتساءل هؤلاء: لماذا لم يتخذ سمو الأمير، الذي طرح مشروعه الإصلاحي برغم معارضة الحرس القديم له ، قرار إعادة الدستور بشكل واضح وصريح وبدون وساطة الميثاق؟ ما ضرورة لجنة الميثاق التي ينحصر دورها حسب ما يقول بعض أعضائها على إقرار ما تريده الحكومة أو رفع توصيات إلى رئيس الوزراء ليأخذ بها أو يرفضها؟ لماذا لجنة تغيير الدستور التي تعتبر مهمتها انتهاكا للمادة 104 من ذلك الدستور؟ لماذا لم يتخذ أي أجراء بحق مرتكبي جرائم التعذيب حتى الآن برغم المطالبة الشعبية والنداءات الدولية بذلك، وبرغم محاولاتهم المتواصلة لتعكير الأجواء والتلاعب بحريات المواطنين وحقوقهم والتحكم الممجوج بالمعاملات اليومية لهم؟ لماذا لا يزال هؤلاء يتمتعون بحماية النظام الذي يرفض اتخاذ أي إجراء للحد من تصرفاتهم؟
التيار الذي يرى ضرورة استمرار التلاحم الوطني بين الفئات السياسية والفكرية وصولا إلى تحقيق المطالب ينظر بريبة إلى بعض الظواهر الخطيرة التي أصبحت تقلق المواطنين جميعا. ومن أخطر هذه الظواهر سياسة التجنيس التي تنتهجها الحكومة. هذه الظاهرة ليست جديدة ، فقد بدأت منذ الستينات واستمرت خلال العقود الثلاثة الأخيرة، لكنها أخذت أبعادا أخطر منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في 1994، وتكرست بشكل واسع في الأثني عشر شهرا الماضية. وقد شمل التجنيس مواطنين من 24 جنسية حسب تصريحات المسؤولين لكن وزارة الداخلية لم تكشف أعداد هؤلاء ولا الأسس التي يتم عليها تجنيسهم. وهناك سيناريو مطروح لدوافع هذه السياسة. يقول مروجو هذا السيناريو إن هدف سياسة التجنيس يتلخص بتغيير جذري للتركيبة السكانية للبحرين يؤدي إلى تلاشي قدرة الشعب على القيام بأي معارضة سياسية فاعلة للنظام، ومنع تكرر تجربة الانتفاضة. ويشير هؤلاء إلى أن نجاح الإضرابات الشعبية في الخمسينات والستينات وبداية السبعينات دفع الحكومة لانتهاج سياسة إغراق السوق المحلية بالعمالة الأجنبية التي أصبحت تمثل أكثر من ثلثي العمالة الكلية، وأصبح من غير الممكن القيام بإضراب عمالي فاعل نظرا للنسبة الضئيلة التي يمثلها العمال البحرينيون في السوق. ويرى أصحاب هذه النظرية أن سياسة التجنيس تهدف لشل القدرة على تكرار تجربة الانتفاضة الشعبية التي هزت البلاد في السنوات الاخيرة. أي أن التغيير السكاني سوف يؤدي إلى جعل المواطنين البحرينيين الأصليين ( شيعة وسنة) لا يمثلون أغلبية ساحقة كما هو الحال قبل بدء عملية التجنيس، وبالتالي سوف يصبح القيام بعمل سياسي معارض فاعل أمرا صعبا جدا. ويدعي أصحاب هذه النظرية أن الإصلاحات التي حدثت في الشهور الأخيرة تهدف ‏-‎‎ ضمن ما تهدف إليه ‏-‎‎ لعدد من الأمور منها التخلص من الإشكالات الأمنية التي شوهت سمعة الحكومة في المحافل الدولية وتحقيق سمعة طيبة بعنوان الإصلاحات والانفتاح والديموقراطية، وتمرير ثلاث سياسات استراتيجية متوازية أولها التغيير الجذري للتركيبة السكانية وثانيها تغيير الدستور بصورة تجعله أقل ضمانا للحريات العامة والمحاسبة وثالثها تحويل البلاد إلى ملكية دستورية تكرس للملك صلاحيات واسعة جدا. ويدلل هؤلاء على نظريتهم بغياب الشفافية في ما يتعلق بهذه القضايا الثلاث. فليس هناك نقاش حولها في وسائل الإعلام ولا يتطرق المسؤولون إليها في تعليقاتهم ولا تعطى أهمية ظاهرية في الوقت الحاضر لكي لا ينتبه المواطنون إليها. وتبقى هذه الادعاءات في دوائر ضيقة ويصعب التحقق بشكل واضح من حقيقتها.
أصحاب الاتجاه القائل بأن أهداف المعارضة السياسية لم تتحقق بعد يشيرون إلى عدم جدية الحكومة في إنجاز المشاريع الإصلاحية واستمرار نمط إدارة اللجان الحكومية التي شكلت بعد الميثاق، ذلك النمط الذي يجعلها غير فاعلة ولا تحظى قراراتها بعنصر الإلزام واقتصار صلاحياتها على تقديم الاقتراحات والتوصيات لرئيس الوزراء الذي يأخذ منها ما يتناسب مع سياسته ويترك ما لا يعجبه. كما يشيرون إلى استمرار جهاز الأمن السيء الصيت في مكانه بدون إصلاح أو تغيير، وعدم صدور قرار واحد بتجميد العناصر المتهمة بالتعذيب أو محاسبتهم. بل إن هناك وقائع تؤكد استمرارهم في سياسة القمع بأساليب جديدة كإلغاء الندوات والتحكم المطلق في وسائل الإعلام واستفزاز المواطنين بالاستدعاءات والتحقيقات. وبرغم ما قيل عن إحالة إيان هندرسون على التقاعد فقد بقي العقيد دونالد برايان، وهو من أكبر المعذبين بعد هندرسون ، في منصبه. ويشيرون أيضا إلى استمرار سياسة الرقابة الصارمة على الإعلام ومنع المقالات التي لا تعجب وزارة الداخلية وتبني سياساتها بشكل مفضوح. ومن الدلائل على ذلك افتتاحية جريدة "الأيام" البحرينية قبل بضعة أيام التي رفضت بشكل قاطع مبدأ التحقيق في جرائم التعذيب والقتل خارج إطار القانون ومبدأ محاسبة مرتكبيها تحت شعار "عفا الله عما سلف".
ولوحظ في الأيام الماضية اهتمام شعبي، للمرة الأولى، باليوم العالمي للتضامن مع ضحايا التعذيب في 26 يونيو الذي أقرته لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة. ونظمت ندوتان بتلك المناسبة بنادي العروبة ومأتم كرباباد طالب المشاركون فيهما بعدد من الأمور أهمها التحقيق في قضايا التعذيب ومعاقبة مرتكبيه وتفكيك الآليات التي شجعت على ممارسته، ولوحظ كذلك تناغم موقف سمو أمير البلاد مع الاطروحات المطالبة بتجريم ممارسة التعذيب، الأمر الذي بعث على الارتياح العام. غير أن الحكومة ردت بتكرار مقولة "عفا الله عما سلف" وكرست الشعور العام باستمرار هيمنة وزارة الداخلية على الإعلام المحلي ورفضها تغيير أساليبها في التعاطي مع الشأن العام في البلاد بروح الانفتاح واحترام حقوق الإنسان. ويلاحظ استمرار العقلية القديمة في التعامل مع شؤون المواطنين خصوصا في دائرة الجوازات التي نقل إليها بعض عناصر جهاز الأمن الذين مارسوا التعذيب.
هذه القضايا تعكس تداخلا واضطرابا في العلاقة بين الحكم والشعب. ففي الوقت الذي يعترف فيه المواطنون بالآثار الإيجابية الملموسة للمشروع الإصلاحي الذي طرحه سمو الأمير فإنهم يشعرون كذلك بغموض يكتنف المشروع من زوايا عديدة كما ذكرنا. ويزيد صعوبة الموقف رغبة الأمير وحاشيته في الحفاظ على توازن قلق مع الحرس القديم لتحاشي إثارته، واستمرار غياب الآلية القانونية لضمان حقوق المواطنين، والتردد في بدء الإصلاح الحقيقي في مجال الحريات العامة والمشاركة السياسية. ويزيد من هذه الصعوبة أيضا الموقف الإقليمي إزاء الوضع البحريني. فدولة الإمارات مستعدة لتقديم المعونات الاقتصادية لكنها تفضل أن يكون ذلك عبر الأمير وحاشيته وان تنفق المعونات لبناء المساكن وتسهيل الخدمات للمواطنين. أما السعودية فلم يتضح موقفها بشكل كامل لكن بعض التصريحات التي صدرت مؤخرا من بعض المسؤولين الكبار تعكس عدم الارتياح من حالة الانفتاح. والعلاقة مع قطر ما تزال مشوبة بالحذر والتردد والتذبذب بين الرغبة في الوحدة من جهة، والتشكيك في النوايا من جهة أخرى. غير أن الوضع الداخلي وتوازن القوى السياسية في ما بينها من جانب، وبينها وبين الحكومة من جانب آخر، هو الذي سيحدد مسيرة الوضع السياسي والأمني في البلاد. وينعكس ذلك كله على الوضع الاقتصادي وسياسة جذب الاستثمارات التي طرحها ولي العهد. ومن المؤكد أن حالة الغموض التي تكتنف بعض سياسات الحكومة ستبقى عائقا أمام أي توجه للمصالحة الوطنية خصوصا مع غياب آليات تلك المصالحة. وحيث أن الحكومة لم تمارس الحوار مع المعارضة طوال الفترة السابقة وفي المرحلة الحالية فسوف تستمر النظرة لسياساتها بقدر من السلبية والتشكيك خصوصا مع استمرار آليات الحقبة السوداء ومؤسساتها وشخوصها. وبالتالي فإن أقل ما يمكن أن توصف به الحالة البحرينية اليوم على صعيد العلاقات الداخلية هو أنها تتسم بالتوجس والحذر والتشكيك. ولكي تزول تلك الحالة وتصبح العلاقة أكثر إيجابية يتطلب الأمر أن يكون الحكم أكثر وضوحا في أهدافه وأقل غموضا في نواياه وسياساته وأسرع حركة في تنفيذ ما وعد به من إصلاحات وأقل تشبثا بسياسة التوازنات المضطربة.‏‏
[