الشيخ الصفّار في الليلة السابعة من المحرم: يدعو إلى تفعيل التأثير المتبادل بين القيادة الدينية والجمهور



اضغط هنااا

المحور الأول: واقع التأثير المتبادل


الالتفاف الشعبي حول القيادة الدينية

من الواضح أن القيادات الدينية ـ والتي تتمثّل في هذه العصور في علماء الدين ـ تمارس تأثيرها على الجمهور، وذلك لما يتمتّع به علماء الدين من وثاقة لدى عامّة الجمهور، وكذلك باعتبارها تمثّل وجهة نظر الدين فيما تطرحه من آراء وأحكام ومواقف، ولأنّ الناس متديّنون بطبيعتهم ويريدون الالتزام بدينهم فإنهم يأخذون معالم دينهم من هذه القيادات الدينية، ويتابعونها في مواقفها وآرائها.

ورغم ما مرّت به المجتمعات الإسلامية من محاولات لإبعاد أبنائها عن الدين وعن الالتفاف حول علماء الدين، من قبيل تلك التيارات الفكرية التي عصفت بالأمة وأرادت أن تشكّك أبناء الأمّة بدينها، وكذلك الإشاعات والدعاوى والاتهامات التي أثيرت بشِكْل واسع ضدّ القيادات الدينية، رغم كل ذلك لم تفلح في إبعاد جماهير الأمة عن قياداتها الدينية لالتزامهم بدينهم من جهة، ومن جهة أخرى لأن الأمّة رأت أن تلك البدائل المطروحة لم تكن بالدرجة المرجوّة، ولم تكن تتمتّع بالإخلاص والحكمة.

فقد جرّبت الأمّة الإسلامية الأحزاب التي جاءت بمختلف الشعارات والتوجّهات والدعاوى، فما حصدت الأمة من ورائها إلاَّ الويلات، ولم تستطع هذه التوجّهات أن تصلح ولا أن تغيّر ولا أن تطوّر، وإنما أصيبت الأمّة بالكثير من المشاكل والمصاعب والأزمات، ولذلك ازدادت ثقة الناس بدينهم وببقياداتهم الدينية.

وما حصل في العراق أنموذج لهذه التجارب، حيث كانت الاتجاهات المناوئة للإسلام تشيع الدعايات ضدّ الدين، والأفكار المناوئة له ولرموزه، فالسلطات التي حكمت العراق طيلة عقود باسم تلك التيارات والأحزاب سعت لإبعاد العلماء عن الناس، وحاولت تحجيم دور الحوزة العلمية، ودور المراجع والعلماء، وأمعنوا في الحوزة تنكيلاً وتبعيدًا وقتلاً واعتقالاتٍ، فكم قتلوا من علماء الحوزة وفقهائها في العراق، وسجنوا وطردوا وأبعدوا وأقصوا، ولكنّ لمّا انكشف الغطاء وانجلت الغبرة تبيّن أن الساحة في العراق توالي قيادتها الدينية وتلتفّ حولها بشِكْلٍ أذهل العالَم.

هذا الالتفاف حول القيادات الدينية ـ والحمد لله ـ موجود في كثير من البقاع والمناطق وفي مختلف المذاهب، ولكنّ الدرجات تتفاوت من مكان لآخر ومن مجتمع لآخر.

وما نريد أن نوضّحه هنا أن هناك تأثيرًا واضحًا من قبل القيادات الدينية على الجمهور في الأحكام الشرعية وفي المواقف السياسية والاجتماعية.


تأثير الجمهور على نخبه وقياداته

ولكن ما ينبغي بحثه هو مسألة تأثير الجمهور على القيادات الدينية، حيث لا يمكن إنكار ما يمارسه الجمهور على هذه القيادات من تأثير، وهذا التأثير قد يكون في بعض وجوهه إيجابيًّا وفي بعضها سلبيًّا. وهو أمر يمكن أن نرجعه لسببين:

السبب الأول: أن القيادات الدينية بشريّة وإنسانية، وبالتالي لها مشاعرها وأحاسيسها تتأثر بالبيئة التي تعيش فيها والمحيط الذي تنشأ فيه، وذلك يؤثّر في تقويمها للأمور وتشخيصها للحالات وفي درجة المواقف التي تتخذها.

وهذا أمر نخصّ به علماء الدين دون القيادات الدينية المعصومة، فهذه القيادات لها وضعيتها الخاصّة، فالأنبياء والرسل والأئمة المعصومون مسدّدون بعناية إلهية خاصّة تعصمهم وتوجّهم لتجنّب الوقوع في الخطأ.

لكنّ الإنسان بشِكْل طبيعي يتأثّر بالمحيط الذي يعيش فيه، فالدرجة العلمية للعالِم لا تمنعه من التأثُّر بمحيطه وبيئته.

السبب الثاني: تطبيق الأحكام الشرعية على موضوعاتها الخارجية، فهناك أحكام شرعية، وهذه الأحكام تطبّق على موضوعات خارجية، والموضوعات الخارجية تحتاج إلى تشخيص وتحديد وتقييم، وهذه المهمّة يحتاج فيها العالِم لرأي الناس ومشورتهم، ولا يمكنه الاستغناء عن هذه المشورة في كثير من المواضع.

كما أن هنالك أحكامًا للموضوعات أولية، وأخرى ثانوية، وتحديد أيٍّ منهما يحتاج إلى تشخيص دقيق للواقع، قد يستعين الفقيه في تحديده بأصحاب التخصص والكفاءة من الجمهور، والفقيه مطلوب منه أن يستفيد من آراء هؤلاء المتخصِّصين.

وهذه نقطة من المهمّ الإشارة والتنبيه عليها، وذلك لما يعتقده البعض من أن العالِم والفقيه لا يحتاج إلى الناس، فهو من يقرِّر كل شيء ويحدّده، وهذا الاعتقاد خاطئ، فالقيادات الدينية عليها أن تستفيد من خبرات وتجارب الآخرين، خاصّة عندما تعيش وسط مجتمع يملك الكفاءات والخبرات والمثقفين وأصحاب التجارب كمجتمعاتنا ـ والحمد لله، فإن هذه الخبرات التي نملكها لا ينبغي لعالِم الدين أن يتجاهلها في تشخيص الموضوعات ودراسة الظروف.

ومن أبرز ما يحتاج فيه عالِم الدين إلى الناس هو القيام بإدارة شؤونهم الدينية والحياتية، من قبيل المؤسسات الدينية الاجتماعية. وكذلك مسألة إدارة أموال الحقوق الشرعية، التي يُطلب صرفها في وجوهها المستحَقَّة، إذ إن تحديد الموارد الأكثر إلحاحًا وحاجةً قد لا يتأتّى لعالم الدين بمفرده أن يقوم به، وفي هذه الحالة على عالِم الدين أن يستعين بآراء الخبراء والاقتصاديين الموجودين في المجتمع.

ومن الموارد التي يحتاج فيها عالِم الدين لرأي الجمهور برامج التوجيه والتوعية، ومن أبرزها المنبر الحسيني، حيث يحتاج الخطيب ـ ليؤدّي دوره في خدمة المجتمع ـ أن يأخذ بآراء المتخصِّصين في علم النفس والاجتماع، حيث تساعد آراؤهم في إعطاء صورة جيّدة تستند إلى الدراسات والأبحاث.

ومجتمعنا ـ للأسف ـ يعيش نقصًا واضحًا في مؤسساته الدينية في هذا الجانب، حيث لا تستفيد هذه المؤسسات من الخبرات والتجارب الموجودة في المجتمع، وذلك بسبب تجاهل علماء الدين لمثل هذه الكفاءات في بعض الأحيان، كما يتحمّل أصحاب الكفاءات بعض المسؤولية في هذا الاتجاه، فلا ينبغي أن يبعدوا أنفسهم عن التواصل مع العلماء لترشيد المسيرة ولإفادة المجتمع من خلال تجاربهم وطاقاتهم، فالحالة الدينية يجب أن تمتلك مؤسسات وتستفيد هذه المؤسسات من الخبرات والتجارب العصرية.


النبي القدوة في المشورة

وإذا ما عدنا للنبي محمد نراه وهو النبي المسدَّد من الله سبحانه، ويملك كمال العقل وسداد الرأي يُؤْمَرُ من قبل الله تعالى أن يستشير الناس. يقول تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾[2] .

وقد كان النبي أكثر أصحابه مشاورة لهم، يروى عن أبي هريرة أنه قال: «ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله »[3] . ومثل هذا الحديث يروى عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: «ما رأيت رجلاً أكثر استشارة للرجال من رسول الله »[4] . كما يروى عنه أنه كان يقول لأصحابه في مواقف عديدة: «أشيروا عليَّ» أو «أشيروا علينا»[5] .

وفي طبقات الكبرى لابن سعد أن النبي كان يخطب إلى جذع في المسجد قائما، فقال إن القيام قد شقّ عليّ، فقال تميم الداري: ألا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع في الشام؟.

تقول الرواية: فشاور المسلمين فرأوا أن يتخذوه[6] .

وينقل لنا التاريخ كيف كان رسول الله يأخذ بالآراء التي يطرحها بعض أصحابه عليه، ومن ذلك ما ينقل في واقعة بدر، حينما جاء رسول الله ومَن معه من المسلمين وعسكروا في منطقة عند بئر بدر، فجاء له من أصحابه الحُبَاب بن المنذر بن الجَموح، فقال له: «يا رسول الله أرأيتَ هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه، ولا نتأخر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟!» فقال : «بل هو الرأي والحرب والمكيدة» فقال الحباب: «يا رسول الله، فإنَّ هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء القوم فنَنْزله». فقال رسول الله : «لقد أشرتَ بالرأي»، فنهض رسول الله ومن معه من الناس[7] .

وهكذا في قضية حفر الخندق في معركة الأحزاب، حينما حاصر الكفّار والمشركون واليهود المدينة، فجمع الرسول أصحابه وطلب منهم المشورة، فقام سلمان الفارسي وقال: «يا رسول الله إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة»، فقال : «فما نصنع؟» فقال سلمان: «نحفر خندقًا يكون بيننا وبينهم حجابًا، فيمكنك منعهم في المطاولة، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه، فإنا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فتكون الحرب في مواضع معروفة»، فأمر النبي أن يحفروا الخندق حول المدينة عملاً برأي سلمان [8] .

ويروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من قصار كلماته أنه قال: «من استبدّ برأيه هلك، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها»[9] .

وقد استشار الإمام الصادق مرة أحد أصحابه فقال له: أصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال نعم إذا استشرتك[10] .

وهذا أمر لا ينبغي للقيادات الدينية أن تغفله أو تتجاهله، وفي الجهة المقابلة على الجمهور أن يطرحوا رأيهم أمام هذه القيادات، ففي بعض الأحيان يكون لدى بعض الناس تهيُّب من طرح وجهة النظر التي قد يخالف فيها عالم الدين، ويكتفي بالتذمّر أو الحديث عنها في المجالس المغلقة، بينما المفترض أن تصل هذه الاقتراحات وآراء الناس للعلماء والمرجعيات الدينية، فهذه مسؤولية، وعلينا كجمهور أن نقوم بهذه المسؤولية كما أن على العلماء أن يقوموا بمسؤوليتهم.

والقيام بهذه المسؤولية له أثر على العالِم ومن ثمّ الشريحة الأوسع من الجمهور، فعندما يرى العالم أو الخطيب كثرة من الناس تعترض عليه أو تنتقده سيضطر لإعادة بحث الموضوع وتقييم مواقفه، وقد يقتنع بأن المسألة تحتاج إلى تصحيح أو مراجعة.


المحور الثاني: ضغوط الجمهور والموقف الشرعي


القيادة الدينية بين الجرأة والحذر

في بعض الأحيان تكون الجهة الدينية لديها رأي شرعي، أو موقف ترى فيه المصلحة الاجتماعية، ولكنّ الجهور ـ غالبيتهم أو الشريحة الأوسع منهم ـ يعارضون هذا الرأي أو ذلك الموقف.

وفي هذه الحالة تتنوّع ردود أفعال القيادات الدينية، فالبعض منهم يكون لديه درجة عالية من الجرأة والإقدام، خصوصًا إذا كانت هذه القيادة تستند إلى الحجّة الشرعية المؤمِّنة، وتستند إلى ما يؤيِّد موقفها العام، فتصرّ على رأيها وموقفها.

وفي المقابل فإن بعض القيادات ترتأي التراجع والسكوت بسبب ما يتّخذه الجمهور من ردّة فعل، قد تكون في بعض الأحيان فيها من الشدّة ما يضطّر هذه القيادات أن تكون في حالة من التردّد في طرح الرأي والموقف.

وهذا يرتبط بثلاثة أسباب، هي كالتالي:

السبب الأول: مدى وضوح الرؤية عند الجهة الدينية

فإذا كانت الرؤية واضحة تكون عاملاً مساعدًا للإقدام والصمود عند القيادة الدينية، بينما إذا كانت الرؤية غير واضحة وفيها بعض التشويش فهذا يسبّب حالة من التردّد، وفي هذا الصدد يُروى عن الإمام الصادق قوله: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»[11] .

وهذا نص صريح في أن العالِم كلما كان على معرفة جيّدة بالوضع العام السياسي والاجتماعي من حوله بشِكْل أجلى تكون الرؤية أمامه أوضح.

أمّا إذا لم تكن لديه هذه المعرفة فإنها تهجم عليه اللوابس، فيتردّد ويتهيّب.

السبب الثاني: ضعف الشخصية وقوّتها

الناس يتفاوتون ـ حتّى على مستوى العلماء ـ في شخصيّاتهم، فهناك مَن يملك الشخصيّة القويّة والشجاعة، وهناك من لا يملك هذه القوّة.

والعلم والمعرفة لا تبدّل شخصية الإنسان بشِكل كامل.

فالقيادة التي تمتلك قوّة الجَنان تملك الجرأة في طرح رأيها وموقفها.

السبب الثالث: درجة الإخلاص والاستعداد للتضحية

وخاصّة إذا كانت التضحية تتعلّق بثقة الناس وبسمعة العالم عندهم، فهذا أمر صعب، فالعالم إذا كانت بعض المواقف تسبب له خسارة مالية أو مادّية أو أذى جسميًّا قد يتحمّل، ولكن إذا كان من مضاعفات اتخاذ الموقف ما يمسّ سمعته فهذا أمر أصعب من تلك الخسائر المادّية، فالأصعب على الإنسان أن يُتّهم في سمعته أو دينه أو معتقده.

وفي هذا الصدد ينقل أن أحد الأنبياء حينما بعثه الله تعالى طلب منه أن يكفّ ألسنة الناس عنه. فأجابه الله تعالى: «هي خصلة لم أجعلها لنفسي، كيف أجعلها لك؟!».

من هنا يحتاج العالِم إلى درجة كبيرة من الإخلاص والتضحية فيما إذا استلزم الأمر أن يتّخذ موقفًا شرعيًّا لمصلحة الدين والمجتمع.

ومن أمثلة القيادات الدينية التي تحمّلت في سبيل مصلحة الأمّة الإمامُ الحسن المجتبى الذي كان يدخل عليه بعض أصحابه ويقول له: «السلام عليك يا مذلَّ المؤمنين»[12] ، وهذا أمر لم يكن بسيطًا على نفس الإمام، خصوصًا إذا كان يصدر عن خلّص أصحابه. ولكنّ الإمام كان يرى أن المصلحة فيما اتخذه من موقف، ومن أجل ذلك تحمّل عناء هذه الاتهامات.


دوافع الجمهور للضغط على القيادات:

ومن الجيّد الإشارة إلى الأسباب التي تدعو الجمهور إلى الضغط على قياداته الدينية، نذكر منها ثلاثة أسباب:

(1) الأعراف والتقاليد السائدة

في كل مجتمع هناك أعراف وتقاليد وآراء سائدة عند الناس، وعادةً ما يتمسّك الناس بها فترة من الزمن. فإذا ظهرت لهم الجهة الدينية برأي جديد خلاف عاداتهم وتقاليدهم وما هو سائد عندهم، ففي مثل هذه الحالات لا يكون القبول سهلاً عند الناس.

(2) الاستعجال في النتائج

بحيث تكون هناك مصالح عاجلة يلحظها الناس، بينما العالم يرى أن هناك مصلحة دينية أو اجتماعية مستقبلية أهمّ، ولكن لا يكون جميع الناس بالمستوى الذي يدركون فيه مثل هذه النظرة المتأنّية والبعيدة