مسألة فقهية:

هناك مسألة فقيه يذكرها الفقهاء في كتاب صلاة الجماعة حول من يُصلي بالناس جماعة وهي: إذا تشاح الأئمة رغبة في ثواب الإمامة[8].

قد يستغرب البعض كيف أئمة يتنافسون على صلاة الجماعة ؟! - الفقهاء يقولون نعم لأن صلاة الجماعة فيها أجر، والإنسان يكون إماما أفضل له من أن يكون مأموماً. أنا أريد أن أكون إماماً حتى يكون ثوابي أكثر.

يقول الفقهاء: يتقدم من يقدّمه المأمومون. فإذا اختلفوا، فهناك مقاييس للتقديم: الأفقه - ثم الأورع - ثم الأكبر سنّاً، في حال تساويهم في مختلف المقاييس.

وبالتالي فالتنافس مشروع حتى في أعمال العبادة. والإسلام لا يقمع حالة التنافس بل يذكي حالة التنافس في الاتجاه الايجابي.

ونحن نقرأ في سيرة رسول الله نبينا محمد كيف كان يثير التنافس الإيجابي في نفوس أصحابه، ويقر هذه الحالة، كما في مشهد حديثه مع الأنصار بعد غزوة حنين.

تقول الرواية: أعطى الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - ما أعطى من العطايا لقريش من المؤلفة قلوبهم، ولم يكن للأنصار منها شيء، حتى كثرت منهم القالة، وقال قائلهم: (لقي والله رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قومه)... وقال سعد للرسول: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب، ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء.

فقال الرسول : «فأين أنت من ذلك يا سعد؟».

قال: يا رسول الله ما أنا إلا من قومي.قال : «فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة».

فلما اجتمعوا أتاهم الرسول فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا معشر الأنصار، ما مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها علي في أنفسكم! ألم آتكم ضُـلالاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف الله بين قلوبكم!».

فقالوا: بلى، الله ورسوله أمـن وأفضـل. ثم قال : «ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟».

قالوا: «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل!». قال : «أما والله لو شئتم لقلتم، فلصَدقتم ولصُدّقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم في لُعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكَلْتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحـالكم؟... فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجـرة لكنت أمرأ من الأنصـار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار! اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار»... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم[9] .

إذن التنافس الإيجابي مشروع ولا يخل بالوحدة، فالوحدة لا تعني أن يذوب الناس جميعاً في اتجاه واحد ورأي واحد وطريق واحد، إنما التعدد أمر مفيد ومشروع، والتعددية لا تعني التمزق والتفرق. نحن نختلف في الرأي والتوجه والانتماء، ولكن تجمعنا مصلحة واحده وقواسم مشتركة، فلا مشكلة في هذا الأمر. فوجود التعدد ليس سيئا، إنما الأمر المهم كيف ندير هذه الحالة من خلال التنافس الإيجابي
المحور الثالث: بين الصراع السلبي والتنافس الإيجابي
البعض من الناس إذا رأوا منافسين لهم يصبح لديهم حالة سلبية تجاه المنافسة، ولهذه الحالة السلبية أو لنقل الصراع السلبي مظاهر، من أبرزها:

أولاً- كراهة المنافس وقطيعته.

فبعض الناس يكره أن يبرز منافس له وينزعج ويحزن ويتألم، لا يريد أن يكون له منافس. ويغفل عن أنه من حقه أن يعمل وغيره من حقه أن يعمل أيضاً. وهذه حالة سلبية يمقتها الإسلام، وقد تصل بالإنسان إلى الحسد بيد أن الإنسان المؤمن لا يحسد، بل يغبط أخاه المؤمن بأن يتمنى أن يتقدم كما تقدم غيره، وهذا أمرٌ مشروع أما أن تصل المسألة إلى الحقد والكراهية فهذا يُسمى حسداً، وفي كلمة جميلة لأمير المؤمنين يقول: «الحاسد مغتاظ على من لاذنب له»[10] .

والقرآن الكريم يحكي لنا قصة ابني آدم وكيف أن أحدهما وهو (قابيل) قرر قتل أخيه (هابيل) لا لشيء إلا لأن الله تقبل قربانه، يقول تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾. المائدة 27

ثانياً- الإساءة والعدوان على المنافس.

قد يتجرأ البعض فيسيء للمنافس ويعتدي عليه، سواءً بتسقيط شخصيته أو تشويه سمعته، أو عرقلة أعماله، أو أن يسيء له بأي طريق كان.

هذه الإساءة لا مبرر لها - والمشكلة أن الإنسان إذا اتجه بهذا الاتجاه يتأخر أكثر. هناك رواية جميله عن أهل البيت هذه الرواية في بحار الأنوار، جاء فيها: «إن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه، وإن كان يسيرا. ومن يبني ويهدم يوشك أن لا يرتفع بنائه»[11] .

لماذا يتجه البعض لتسقيط الآخرين؟ أنت تقدم، وطور نفسك. لماذا تتعدى على الآخرين وتسيء لهم وتشوه سمعتهم؟ لأنهم سبقوك؟ لأنهم تفوقوا عليك؟ لأنهم أحرزوا ما لم تحرز؟ هذا لا يُخوّلك ولا يُبرر لك الاعتداء عليهم.

فالصراع السلبي من جانب يؤثر على الجهة نفسها، ويضر بالمجتمع، ومن جهةٍ أخرى يخلق صراعات وعداوات، مما يؤدي إلى تفريق المجتمع وتمزيقه.


التنافس الإيجابي طريق العقلاء

عندما نتكلم عن التنافس الايجابي لا نتكلم عن حاله مثالية خيالية، فنحن نرى المجتمعات الأخرى المتقدمة، قد فتحت الباب للمنافسة في كل المجالات، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، والأهم من ذلك كله هم يتنافسون على أشياء مهمة، وعلى أرفع المستويات. أما في عالمنا العربي والإسلامي فالمنافسة على أشياء محدودة، ومع ذلك نجد الصراعات والعداوات قائمة.

ولعل بعض المؤمنين كان يتوقع من الله سبحانه وتعالى أن يُغلق الأبواب أمام تلك المجتمعات كي لا تتقدم نظراً لاعتبارهم لا يؤمنون برسالة الإسلام، ولكن الله تعالى يؤكد عدله العظيم في كتابه الكريم فيقول تعالى: ﴿كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾.
فالإيمان ليس ساحة للركود، وإنما ساحة للعمل والجهاد، وهذه هي سنة الحياة: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾.

صور التنافس الإيجابي

أولاً- الاعتراف بالآخر واحترامه.

ثانياً- المراهنة على بذل الجهد.

إذا كنت تحب أن تتقدم، ولا يتفوق عليك الآخرون، عليك أن تضاعف جهدك وتطور عملك وانجازك فهذا هو السبيل وهو الطريق للنجاح والتنافس الإيجابي، وهو ما تدعوا إليه آيات القرآن الكريم: ﴿وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾.

عميق معنى هذه الآية الكريمة وهي تؤكد على العاملين والناشطين أن لا يعبئوا بما يشغلهم عن إنجازاتهم وتقدمهم، وإن واجهوا من يُعرقل لهم طريق التقدم فعليهم أن يتمسّكوا بهذا النهج الذي تُقدمه ألآية المباركة: ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾. أما إذا انشغل العاملون بالمهاترات التي يُراد لها عرقلة نشاطهم، فإنهم بذلك يُحقّقون أهداف المغرضين، ويتأخروا في مسيرتهم.

وفي آية أخرى يأمر الله تعالى فيها النبي بأن يخاطب أهل الكتاب بها: ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾.

وما نجده من مهاترات حول السجال المذهبي لا يخدم الإسلام ولا المسلمين، وقد انشغلت الأمة خلال أكثر من 1400 سنه بهذا السجال، وإلى متى نبقى أسارى؟ كفانا ذلك، فلنتجه نحو البناء والتنافس الإيجابي في خدمة قضايا أمتنا وخدمة مصالحنا، وكل واحد يمشي على منهجه ﴿لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ﴾، والساحة هي التي تقيّم والناس هم الذين يحكمون، والتاريخ هو الذي يحكم، ويوم القيامة الله تعالى يفصل بين الناس، هذا هو المنطق العقلائي، وهذا هو المنطق الصحيح. فالمراهنة على بذل الجهد.

ثالثاً- التعاون في خدمة القضايا المشتركة

نحن إذا كنا أبناء مجتمع واحد، وتهمنا خدمة مجتمعنا، فعلينا أن نتعاون في خدمة المجتمع. لماذا تحطّمني وأحطمك؟ لماذا تعرقل طريقي وأعرقل طريقك؟ لماذا تشوّه سمعتي واشوه سمعتك؟ نحن من مجتمع واحد، أي قوة تنشأ هي قوة لنا جميعاً، وأي نشاط هو لصالح الجميع. فالمهم أن يكون هناك تعاون وتواصل بين مختلف التيارات.

في الماضي كان مجتمعنا راكداً لا يوجد فيه تيارات ولا توجهات وليست فيه أفكار جديدة، ولا قيادات شابه.

أما الآن -والحمد لله- تطور الوضع في مجتمعنا على المستوى الديني والأدبي والاقتصادي والتجاري وعلى مختلف الأصعدة والميادين، وهذا تطور جيد.

والمهم هنا أن نتجه نحو التنافس الإيجابي حتى نخدم مجتمعنا، وعلينا أن نتعاون إيجابيا لا أن نتصارع صراعاً سلبياً نهدد به وحدة المجتمع.

وفي بعض الأحيان يحصل صراع على قضايا محدودة، مسجد، أو حسينية، أو موكب. علينا أن لا ننشغل بالصراعات، وإنما نتجه باتجاه فتح أطر جديدة للعمل، والاتجاه نحو قضايا أرحب وأوسع دون الانغلاق في قضايا ضيقة ومحدودة.

هذا هو التنافس الإيجابي الذي نبغي أن نهتم ونتعاون من أجل تعميق جذوره في المجتمع.

وأخيراً علينا أ، نبذل الجهد في نشر ثقافة التنافس الايجابي، وعلى الواعين من المجتمع تحمل المسؤولية سواءً العلماء أو المثقفين.

ومن المؤسف أن تكون هناك حالة من التفرج على المشاكل التي تحصل بين الفئات والجماعات، وهذا أمرٌ خاطئ، فالإسلام يدفعنا باتجاه الإصلاح، يقول رسول الله : «إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام»[12] .

فمن الضروري أن نتوجه لإصلاح ذات البين، ونشر ثقافة التنافس الايجابي وأن نخلق بيئة في مجتمعنا تتسع للجميع وتذكي التنافس الايجابي لصالح الجميع وعلى مختلف الأصعدة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمدٍ وآله الطاهرين.