الليلة الخامسة من المحرم: التنافس الإيجابي وتقدم المجتمع
من خلال الآية القرآنية الكريمة:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ تحدث سماحة الشيخ حسن الصفّار في الليلة الخامسة من المحرّم 1428 هـ عن «التنافس الإيجابي وتقدّم المجتمع»، مركّزًا حديثه في ثلاثة محاور رئيسة، رتّبها كالتالي:
المحور الأول تحدّث فيه عن «طموح التفوّق» فأشار إلى أن الإنسان السويّ بطبيعته وفطرته يطمح إلى ألاَّ يتفوّق غيرُه عليه، وعلى العكس منه ذلك الإنسان الخامل والكسول الذي يبرّر دائمًا كسله وتفوّق الآخرين عليه بمبرّرات واهية، يمكنه أن يتغلّب عليها لو مَلَكَ الإرادة والتصميم. وأشار سماحته في هذا السياق إلى بعض النصوص الإسلامية التي تشير إلى هذه النقطة (فطرية حب التفوّق لدى الإنسان).
المحور الثاني «مشروعية التنافس» بيّن فيه سماحة الشيخ أن التنافس بين الأفراد والجماعات من سمات المجتمعات المتقدّمة والمتحضّرة، حيث تكثر فيها التوجّهات والقيادات والنخب والكفاءات والأفكار، وتسعى فيها هذه التعدّدات إلى التنافس فيما بينها. بينما تظلّ سمة الركود هي السمة الغالبة على المجتمعات المتخلّفة. مثنّيًا بذكر الفوائد الاجتماعية لوجود حراك تنافسي إيجابي، من أهم هذه الفوائد: نضج، ونموّ الأفكار والقيادات والجماعات المتنافسة فيما بينها، دون أن يُغْفِل سماحته الإشارة إلى أن النصوص الإسلامية توجّه المجتمع المتديّن نحو هذه الحالة التفاعلية من التنافس.
المحور الثالث «بين الصراع السلبي والتنافس الإيجابي» قسّم البحث فيه إلى بحث مظاهر كل من:
(1) الصراع السلبي، فعدد ظاهرتين من مظاهره، هما: كراهة المنافِس والحقد عليه ومقاطعته من قبل المنافس الآخر. والإساءة والعدوان على المنافس.
(2) التنافس الإيجابي، وذكر أن في هذا النوع من التنافس:
- يعترف كل طرف بالآخر، فلا يتجاهله أو ينكره، بل قد يكنّ له الاحترام.
- يراهن كل طرف من المتنافسين ـ لتحقيق التفوّق ـ على بذل الجهد الذاتي لإحراز التقدّم.
- تسعى جميع الأطراف للتعاون لخدمة القضايا المشتركة.
- تنفتح أمام كل طرف آفاق جديدة أكثر رحابة وسعة، بعكس الصراع السلبي، الذي يجعل المتنافسين يهتمّون بصغائر الأمور.
وحمّل سماحة الشيخ الصفّار ـ في نهاية حديثه ـ المجتمع وخصوصًا العلماء والوجهاء مسؤولية نشر هذه الثقافة (التنافس الإيجابي) للرقيّ بمجتمعنا والابتعاد به عن أجواء التشنّج والعصبيات المقيتة.
وهذا هو نص المحاضرة:
﴿بسم الله الرحمن الرحيم﴾
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾[1]
يتركز حديثنا على ثلاث محاور:
المحور الأول: طموح التفوق
الإنسان من حبه لذاته يرغب أن يحوز أكبر قدر ممكن من المكاسب والمصالح، وفي بعض الأحيان قد لا يلتفت الإنسان إلى مكسب معين، فإذا ما رأى أن غيره قد أحرز هذا المكسب يحصل لديه تحفز نحو ذلك المكسب، وبالتالي فإن أي تقدم يحرزه إنسان في المجتمع قد يحفز الآخرين حتى يصلوا إلى مستواه، لوجود طموح التفوق.
وكحالة طبيعية في الإنسان السوي أنه يسعى جاهداً ليكون هو المتقدم على الآخرين، وفي مختلف الميادين، بعكس الإنسان الخامل، فما الفرق بين الشخصيتين؟
_ الإنسان السوي من الطبيعي أن يكون لديه طموح، والذي لا يملك طموحاً للتفوق هو الإنسان الخامل.
_ الإنسان السوي يتمنى الخير لنفسه ويتمنى المصلحة الأكثر لذاته ويرغب فيها ويفتش عن الطرق التي يتقدم من خلالها كما تقدم الآخرون.
لكن الإنسان الخامل عادة ما يكون فاقداً للثقة بنفسه، فيبحث عن المبررات، يُبرر بها تقاعسه.
المحور الأساس للتفوق
هناك عوامل مساعده للتفوق والتقدم و لكن المحور الأساس للتفوق هو إرادة الإنسان. فالإنسان الذي لديه إرادة يتجاوز الصعوبات و يتجاوز العوائق.
وهنا نذكر هذه الحالة التي تكشف قيمة الإرادة: منذ حوالي سنة كانت هناك إحدى الطالبات المتفوقات (مي الملحم)[2] والتي حازت جائزة الأمير محمد بن فهد للتفوق العلمي (وهي جائزة تهدف لتحفز الطلاب والطالبات للتفوق والتقدم في دراستهم) أربع مرات متتالية، في المرحلة الابتدائية (1412هـ) والمتوسطة (1418هـ) والثانوية (1421هـ) والمرحلة الجامعية (1426هـ)، رغم أنها كانت مبتلاة بمرض مزعج وهو المرض المعروف بـ (أنيميا البحر الأبيض المتوسط) وهو مرض يصيب الدم ويحرم الإنسان من كريات الدم الحمراء التي تحمل الأوكسجين إلى القلب.
وقد اكتشف والداها مرضها بعد ولادتها بثلاثة أشهر وأصبحت بذلك تحتاج إلى نقل دم شهريا.
وتبديل الدم ليس بالأمر اليسير فهو مرض صعب، ولكنها مع ذلك ومع هذا المرض تفوقت في كل المراحل، وقد نشرت عنها الصحف في حينها.
هكذا إذاً كانت لدى الإنسان إرادة للتقدم والتفوق يستطيع أن يتخطى الظروف التي يعيشها.
قصة من التراث
يقول الأصمعي: كنت أطوف بالبيت فوجدت شخصاً متعلقاً بأستار الكعبة وهو يدعو بإلحاح ويبكي: اللهم إني أسألك ميتة أبي خارجه، ويُكرر هذا الدعاء ببكاء.
يقول: تساءلت في نفسي ما هي ميتة أبي خارجة!! فهل هو حقق فتحاً كبيراً واستشهد، أو قام بإنجاز علمي ضخم ومات،.... يقول: بعد أن أكملت طوافي، جئت عند ذلك الرجل وتركته يهدأ قليلاً من بكائه وتضرعه وتهجده، ووجهت السؤال إليه: كيف كانت موتة أبي خارجه؟!
قال: ألا تعلم؟ قلت: لا!
قال: إن أبا خارجة أكل حتى أمتلئ، وشرب حتى ارتوى، ونام في الشمس. فمات شبعان، ريان، دفآن.
بعض الناس ليس لديهم طموح فتراه يراوح مكانه فيقبل بأقل مستوى دراسي، وأقل مستوى وظيفي، وهذه طبيعة الإنسان الخامل، ينما الإنسان السوي يتطلع لأعلى مستويات الطموح في مختلف المجالات، يقول الشاعر:
إذا ناضلت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون iiالنجوم
فموت المرء في شي iiحقير
كموت المرء في أمر iiعظيم
وردت عندنا روايات ونصوص كثيرة تشجع الإنسان على علو الهمة، يقول الإمام علي : «خير الهمم أعلاها»، ويقول : «من رقى درجات الهمم عظمته الأمم»، وقال : «من شرفت همته عظمت قيمته»[3] .
ونقرأ في دعاء مكارم الأخلاق للإمام زين العابدين علي أبن الحسين إذ يقول: «اللهم صل على محمد وآل محمد وبلغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وأنته بنيتي إلى أحسن النيات، وبعملي إلى أحسن الأعمال
المحور الثاني: مشروعية التنافس
إذا فكر كل إنسان سوي في أن يكون متفوقاً و متقدماً، فإن ذلك سيؤدي إلى حصول تنافس في المجتمع، وهذه ميزة المجتمعات المتقدمة. بعكس المجتمعات الراكدة، فالناس فيها يميلون إلى السكون وإلى المحافظة على الأمور فإذا كان هناك رأي سائد، أو فكرة سائدة، أو زعامة متمكنة فإنهم ينزعجون من ظهور رأي آخر أو فكره أخرى أو بروز زعامة جديدة.
والسبب في ذلك أن بروز أفكار جديدة، أو ظهور قوة جديدة في المجتمع تخلق حالة من التنافس، وهذه الحالة غير مقبولة في المجتمعات الراكدة لأنهم في الغالب يحملون شعار الحفاظ على الوحدة ضمن مجتمع واحد وضمن حالة واحدة، معتقدين أن تعدد الآراء والأفكار والزعامات تُسبب تمزق المجتمع.
وفي الواقع فإن أي تقدم بالفعل يسبب مشكلات، وتحوطه عوائق، ولكن الركود بحد ذاته مشكلة أكبر، ويُحدث تخلفاً عظيماً في المجتمع.
التنافس: حالة فطرية حالة طبيعية يدعمها العقل، والمتنافس إنسان لديه طاقه وكفاءة، وهذا المتنافس إذا كان في مجتمعٍ متقدم تنمو طاقاته وقدراته، أما إذا كان في مجتمع راكدٍ متخلف فإن طاقاته تخبو وتوأد. وهذا الكلام يجري على الأفراد والجماعات.
وهنا كلمة رائعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: «الناس بخير ما تفاوتوا فإذا تساووا هلكوا»[5] .
فالتفاوت هو الذي يذكي روح التنافس والتقدم.
والتنافس في مصلحة المجتمع فبه يفجر كل إنسان طاقته و قدراته، وكل جهة من جهات المجتمع تسعى للتقدم وهذا من مصلحة المجتمع.
ونحن نرى في الأمور الاقتصادية إذا كان هناك جهة واحده تحتكر السوق ولا يوجد من يُنافسها، فإن ذلك ليس في صالح المجتمع، لأن هذه الجهة ستتحكم في السوق، وتتحكم في ألأسعار وفي ذلك ضرر على الناس. ولكن إذا كان هناك تنافس وكان أمام الناس أكثر من خيار، فذلك من مصلحتهم. وهو دافع للمؤسسات لتقوي نفسها وتطور إنتاجها وأسلوب تعاملها، وهذا في صالح المجتمع.
فالتنافس من مصلحة تقدم المجتمع.
والتنافس هو الذي ينضج الآراء، إذا كانت فكرة سائدة في المجتمع، فكيف نضمن أن هذه الفكرة ناضجة وهي الأفضل والأصوب؟ لا يُمكن ذلك إلا من خلال ظهور فكرة أخرى، عندها سيكون نقاش حول الأفكار، فيتبين أي الأفكار أصوب وأحسن، وهذا الكلام ليس فقط على صعيد الآراء والأفكار، بل حتى على صعيد الزعامات والقوى في المجتمع.
تعاليم الإسلام تشجع على التنافس وتدفع الناس نحوه في العمل وفي مختلف المجالات، يقول تعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا﴾، بمعنى أن الحياة في حقيقتها من أجل أن تتفجر الطاقات وتتفجر الكفاءات وهذا لا يحصل إلا بالتنافس، وفي آية أخرى الله تعالى يقول:
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾، بمعنى فليتنافس الناس في أعمال الخير - فالمجال مفتوح، والتنافس مطلوب. وفي آية أخرى، يقول الله تعالى:
﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾[6] ، استبقوا من المسابقة بمعنى كل شخص يحاول أن يصل قبل الآخر إلى الخيرات. وفي آية أخرى، الله تعالى يقول:
﴿ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾[7] .
.
المفضلات