التعاطف مع المظلومين
ونحن إذ نذكر المآسي والمظالم والمصائب التي وقعت على أهل البيت إنما من أجل ترسيخ هذه القاعدة وهي: التعاطف مع المظلومين.
وفي المقابل هناك ثقافة تُمجّد الظالمين، ولا تستنكر لما يقومون به من ظلم، وعند موت الظالم تكفيه الشهادتان!
وفي كتب الرجال نجد ذلك واضحاً، ففي كتاب التهذيب، مثلاً، هناك روايات عن عمر بن سعد، وفي الترجمة يقال عنه: عمر بن سعد تابعي ثقة قتل الحسين[26] . وكأن جريمة قتل الإمام الحسين لا تعني شيئاً.
أمن مجتمعنا... إلى أين؟
الأمن الاجتماعي موضوعٌ مهم جداً فالإنسان يتطلع للعيش في مجتمع يأمن فيه على نفسه, وماله وعرضه, وهذا أهم معلم لسعادة الإنسان. ففي رواية عن الإمام الصادق يقول: «النعيم في الدنيا الأمن، وصحة الجسم، وتمام النعمة في الآخرة دخول الجنة»[27] .
في الماضي كان الأمن في مجتمعنا متوفراً، فالناس يأمنون على أنفسهم وبيوتهم وعيالهم وأموالهم، نعم، لم يكن مجتمعنا ملائكياً، فقد تحدث جرائم وسرقات واعتداءات، وهذه طبيعة المجتمعات. ولكن هناك فرق بين أن تكون هذه الحالات فردية محدودة وبين أن تكثر وتقترب أن تكون ظاهرة.
ويستغرب الإنسان مما يسمعه بين آونة وأخرى من حالات الاعتداء على النفوس والأعراض والأموال، حتى لا نكاد نصّدق أن ما يحصل بالفعل هو في مجتمعنا الذي كنا نفتخر به، ونتباهى به أمام الآخرين. والحوادث في هذا الإطار كثيرة ومنها الاعتداء على النساء بسرقة حقائبهن وإيذائهن، وكذلك الاعتداء على الأطفال بالاختطاف، وما شابه ذلك، وأيضاً الاعتداء على العمالة الوافدة والتي كانت إلى وقت قريب تشعر بالاطمئنان لكونها تعمل في هذه المنطقة، وبعض هذه الجرائم تنقلها وسائل الإعلام والصحف المحلية، مما يؤكد أننا نعيش في وضع خطير ومرعب، ويجب أن نعلن جميعاً حاله الطوارئ، ونعيد النظر في حياتنا وثقافتنا وبرامجنا ومناهج تعليمنا، وكذلك أداء الأجهزة الأمنية والقضائية، فهذه الظاهرة بدأت تنموا, وقد سألت أحد المسئولين في الجهات الرسمية، هل ما ينشر في الجرائد أمر مضخم؟ أجابني: بل إن ما يُنقل جزءٌ مما يحدث في المجتمع!
وتُشير التقارير الدولية أن أفضل بلد في العالم نجحت في تخفيض نسبة الجريمة هي اليابان, فما هو السبب؟
تقول الدراسات يكمن السبب في كثرة المؤسسات الشبابية في اليابان حيث يوجد (540) ألف مؤسسة تهتم بالشباب، واحدة من تلك المؤسسات اسمها «وحدة الإرشاد والتوجيه للشباب»، فيها (126) ألف متطوع من الشباب، وهناك مؤسسة المرأة للتأهيل، تخص النساء فقط، وفيها (360) ألف إمرأة متطوعة.
فوجود المؤسسات التي تعني بالشباب وتستقطبهم أمرٌ ضروري، ويُساعد على تخفيف حدّة الجرائم في المجتمع. وعلينا أن نغتنم فرصة تواجد الشباب في المجالس الحسينية لتوجيه الشباب وتشجيع المجتمع لمثل هذه المؤسسات. كما أن علينا أن لا نُسرّ كثيراً بما يحدث في عاشوراء من تفاعل، إذ أن هذا التفاعل يُحملنا مسؤولية كبيرة وهي أن لا نغفل عمّا يجري في المجتمع فالكل مسؤول، والأجهزة الأمنية مطالبة ببذل المزيد من الجهد، صحيح أنها انشغلت بمواجهة الإرهاب، ولكن المواطنين يتوقعون دوراً أكبر في حماية الأمن الاجتماعي. والجهات القضائية كذلك عليها أن تكون أكثر صرامة في إصدار الأحكام، لأن العابثين إذا شعروا بوجود تساهل فإن ذلك يدفعهم لممارسة الجرائم وعدم الاكتراث بالعقوبة.
فينبغي أن يكون الردع بالمستوي المطلوب والذي يستحقه المجرم، لا أن تكون شفقة بالمجرمين، ونسمح للوساطات، فنحن في مرحلة نحتاج فيها للصرامة. نسأل الله تعالى أن يحفظ لنا أمننا في مجتمعنا وبلادنا، اللهم آمنا في أوطاننا، لا تسلط علينا من لا يخافك ولا يرحمنا.
المحور الثالث: التزام الإمام الحسين بالسلم في نهضته الحسينية
لماذا تحرك الإمام الحسين ؟ هل في نهضة مخالفة لمنهج السلم؟
في الواقع الإمام الحسين إنما تحرك حفاظاً على سلم الأمة، وقد رأى أن سلطة بني أمية لا تُقدّم للناس أمناً، بل إنها تعتدي عليهم، وقد قال فيهم أمير المؤمنين علي أبي طالب : «والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرماً إلا استحلوه، ولا عقداً إلا حلوه. وحتى لا يبقى بيت مدر، ولا وبر، إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم، وحتى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، وباك يبكي لدنياه»[28] .
بين الخلافة والملك:
هذه الأمة التي كانت تعيش في ظل الخلافة الراشدة، والتي انتهت باستشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وفجأة يُصبح يزيد أميراً للمؤمنين!
الإمام الحسين التزم بوثيقة الصلح التي عقدها الإمام الحسن مع معاوية، رغم نكث الطرف الآخر للوثيقة، ورغم كل التلاعب الذي حصل في بيت مال المسلمين، وقد أعلن ذلك معاوية حينما خاطب المسلمين بقوله: ما قاتلتكم لكي تصوموا ولا لتصلوا ولا لتزكوا ولا لتحجوا, وأعلم أنكم تفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم، ولقد مكنني الله من رقابكم وأنتم كارهون.
وأشير هنا إلى كتاب جميل لمفكر إسلامي وداعية معروف وهو الشيخ أبو الأعلى المودودي وهو من كبار علماء المسلمين في هذا العصر، حصل على جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام سنة 1997م. هذا العالم لديه كتاب مهم جداً اسمه (الخلافة والملك)[29] ، يتحدث فيه عن الخلافة التي انتهت بمقتل الإمام علي ويقارنها بالملك العضوض الذي بدأته بنو أمية. ويُشير أبو الأعلى في كتابه إلى أن الدولة إنما تأسست بسبب الأرضية التي هيأتها البطانة التي أحاطت بالخليفة عثمان.
وقد انزعج البعض من هذا الكتاب بسبب تعرضه للصحابة، وقام الشيخ المودودي برد مفصل ألحقه في الطبعة الثانية وهي المتداولة، أشار فيه إلى أن احترام الصحابة، لا يمنع أن نأخذ الدروس من حياتهم، وأن لا نسكت على الأخطاء، فبسكوتنا تُصبح شرعاً يسير عليه الناس.
وأيضاً هناك كتاب للشيخ محمد قطب وهو عالم معروف من مصر أقام في المملكة وشارك في إعداد المناهج الدينية، عنوان كتابه: (كيف نكتب التاريخ الإسلامي)[30] ،يقول: مما لا شك فيه أن التاريخ السياسي للمسلمين هو أسوأ ما في تاريخهم كله، ومما لا شك فيه أنه قد وقعت انحرافات كبيرة في المجال السياسي عن الخط الإسلامي الأصيل، وأن هذه الانحرافات قد وقعت في وقت مبكر من تاريخ الإسلام لم يكن ينبغي أن تقع فيه.
والعجيب في أمر يزيد أنه كان يُمارس انحرافه باسم الإسلام، ويقول ابن كثير في (البداية والنهاية)[31] عن يزيد بن معاوية: فيه خصال محمودة من الكرم والحلم والفصاحة والشعر والشجاعة وحسن الرأي في الملك، وكان فيه أيضاً إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلوات في بعض الأوقات، وإماتتها في غالب الأوقات.
ويروي - ابن كثير – أيضا: أن يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغنا والصيد واتخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يوم إلا يصبح فيه مخموراً، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب، وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه[32] .
هذا هو أمير المؤمنين!
الهدف الأسمى لنهضة الحسين:
ونحن إذ نتحدث عن هذا الأمر إنما لنبين، السبب الحقيقي وراء نهضة الإمام الحسين.
وأعظم مما سبق عندما أراد معاوية أن يجعل يزيداً ولياً للعهد، خاطبه قائلاً[33] : يا بنيّ ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ثم أنشده:
انصب نهارك في طلاب iiالعلا
حتى إذا الليل أتى iiبالدجا
فباشر الليل بما iiتشتهي
كم فاسق تحسبه iiناسكا
غطى عليه الليل iiأستاره
ولذة الأحمق iiمكشوفة
واصبر على هجر الحبيب القريب
واكتحلت بالغمض عين الرقيب
فإنما الليل نهار iiالأريب
قد باشر الليل بأمر عجيب
فبات في أمن وعيش iiخصيب
يسعى بها كل عدو iiمريب
وحتى أن زياد بن أبيه عندما شاوره معاوية في أمر يزيد أشار عليه أن يتمهل عسى أن تتُغير سلوك يزيد فيكون بالإمكان تسويقه، تقول الرواية التاريخية التي يرويها اليعقوبي في تاريخه[34] أن ابن زياد قال لمعاوية: ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد، وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغ، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، ولكن تأمره، ويتخلق بأخلاق هؤلاء حولاً وحولين، فعسينا أن نموه على الناس.
هذا هو يزيد ملاعب القردة، وشارب الخمر، والمعلن للفسق، وقاتل النفس المحرّمة، وفي الأخير يُصبح أميراً للمؤمنين، ولقد أجاد شاعر أهل البيت السيد جعفر الحلي حيث يصف الحالة بقوله:
لم أدر أين رجال المسلمين مضوا
العاصر الخمر من لؤم iiبعنصره
وكيف صار يزيدٌ بينهم iiملكا
ومن خساسة طبعٍ يعصر الودكا
لذلك أعلن الإمام الحسين موقفه من أول يوم في دار الوليد حين طلب منه الوليد بن مروان أن يبايع, عندها قال : «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحرمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله»[35] .
وبالفعل أصرّ الإمام على موقفه، ولكن يزيد لم يستسغ ذلك، فأمر بفرقةٍ أن تمضي إلى مكة وأن تقتل الإمام الحسين ولو كان متعلقاً بالكعبة
الحسين والنهضة السلمية
وعندما علم الإمام الحسين بالأمر تحرّك لتوعية الأمة لكي تتحمّل مسؤوليتها، ثمّ إنه أعلن حركته السلمية للتغيير دون أن يستخدم سلاحاً وقال كلمته المشهورة التي تبين سبب خروجه: أني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدّي وأبي[36] .
وفي أكثر من مورد يعلن الإمام الحسين أن حركته سلمية وليست للحرب، ومن ذلك موقفه مع الحر بن يزيد الرياحي والذي قدم بألف فارس قد أنهكم العطش[37] ، وقفوا أمام الإمام في وقت الظهيرة، وكان الوقت شديد الحر، ورآهم الإمام وقد اشرفوا على الهلاك من شدة الظمأ، وكانت فرصة سانحة للإمام أن يقاتلهم ويستولي على عتادهم، لكنه رقّ لحالهم، وغض النظر عنهم، وهو يعلم أنهم جاؤوا لقتاله وسفك دمه، وقد أشار عليه بعض أصحابه بذلك، إلا أن نهج الإمام ليس كذلك، وذلك لأن شعاره : «إني أكره أن أبدأهم بقتال»[38] ، ثم أمر أصحابه أن يسقوهم وأن يرشفوا الخيل.
من هنا يؤكد الإمام الحسين للأمة أنه لا ينبغي استخدام العنف والسلاح حتى في التغيير السياسي لأن ذلك ليس في مصلحة المجتمع. وقد تحدث علماؤنا وفقهاؤنا عن هذا الجانب، ومن أبرزهم، المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (رحمة الله عليه)، وكتب في هذا المجال كتب عدة حول (اللاعنف في الإسلام)[39] وحول (السلم والسلام)[40] ، وأكد فيها أنه لا مجال لفرض الرأي والتسلّط على الناس بالسلاح والقوة، وأن هذه الممارسات ليست من الإسلام في شيء.
ومع الأسف في عصرنا هذا شوّهت سمعة الإسلام والمسلمين بسبب تلك التصرفات الإرهابية التي لا تُريد للإسلام ولا للمسلين خيراً، وبسببها فقدت الأمة أمنها واستقرارها، ولم يبق بلدٌ من بلاد المسلمين إلا وتضرر منها.
نسأل الله تعالى أن يقي الأمة شر الفتن، إنه على كل شيءٍ قدير.
المفضلات