المحور الثالث: قبسات من رؤية الإمام الحسين وسيرته
كثير من الناس يعرفون عن الحسين بأنه مظلوم, ويعرفون عن المآسي والآلام التي تحملها الحسين ، وهي عظيمة وهامة. ولكننا أيضاً يجب أن نتعرف على مدرسة الإمام الحسين ونهجه على صعيد الدعوة والحوار.
فمن كلماته أنه قال: «لا تتكلمن فيما لا يعنيك، فإني أخاف عليك الزور، ولا تتكلمن فيما لا يعنيك حتى ترى للكلام موضعاً، فرب متكلم قد تكلم بالحق فعِيب. ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك، والسفيه يؤذيك»[10] .
وفي الفقرات التالية بعض القبسات من سيرة الإمام الحسين في إطار الموضوع الذي نتحدث فيه.
أولاً- اللباقة في النقد
حينما ترى إنساناً مخطئاً في رأيه أو تصرفه فإنه ينبغي أن تحاول إرشاده، ولكن بلباقة، والبعض من الناس لا يجيدون هذا الأسلوب فتراهم يستخدمون التوبيخ والردع وهذا خطأ.
فلنتأمل هذا الموقف من حياة الإمام الحسين : مرّ الإمامان الحسن والحسين عليهما السلام وهما صغيران على شيخ يتوضأ وهو لا يحسن الوضوء, طبعاً المسئولية تقتضي توجيهه وإرشاده، وباعتبار أن الرجل كبير في السن وهما صغيران، فكّرا في أسلوبٍ لبق بحيث لا يجرحا مشاعر الرجل وأحاسيسه، فالهدف إرشاده, أقبل أحدهما عليه وقال: «أيها الشيخ كن حكما بيننا يتوضأ كل واحد منا»، فتوضئا ثم قالا: «أينا أحسن؟»، قال: كلاكما تحسنان الوضوء ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن وقد تعلم الآن منكما وتاب على يديكما ببركتكما وشفقتكما على أمة جدّكما[11] .
ثانياً- تجنب الجدل العقيم
روي أن رجلا قال للإمام الحسين : اجلس حتى نتناظر في الدين. فقال : «يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي فإن كنت جاهلا بدينك فاذهب واطلبه؟، مالي وللمماراة! وإن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بك العجز والجهل»[12] .
وهذا درس بليغ جداً يجب أن نتأمل فيه, إن الإنسان ينبغي أن لا ينساق إلى الجدل العقيم. وأحب أن ألفت النظر إلى أن هذا الكلام الطائفي المذهبي الموجود في الأجواء يريد إشغال الناس بالجدل العقيم, ونصيحتي لنفسي ولجميع إخواني المواطنين بأن يتجنبوا الدخول في هذا الجدل.
في بعض الأحيان ترى في المدرسة, أو الجامعة, أو في أي مكان جدلاً من وحي ما يسمعه الناس من الفضائيات، ويتصور البعض أن واجبه الدفاع، وإذا لم يناقش يُصبح ضعيفاً، ومن هذا المنطلق يندفع الكثير للتجاوب مع هذه المجادلات العقيمة، والتي لا يُعلم إلى أي ستنتهي. فلا يتصور البعض أنه باستجابته يخدم المذهب والعقيدة، فهذا التصور خاطئ.
وفي كثير من الأحيان يكون هدف الطرف الآخر من النقاش التعبئة واصطناع المشكلة, وقد شاهدنا وسمعنا الكثير على هذا الصعيد. ولهذا القرآن الكريم يصف المؤمنين في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً﴾[13] ، ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً﴾[14] .
لوا قرأنا كتب الحديث كالكافي وبحار الأنوار نجد روايات كثيرة عن أئمتنا حول المناظرة والجدل والمراء في الدين، وهي تنهى عن هذه الحالة، الإمام الصادق يقول: «إياكم والخصومة في الدين فإنها تشغل القلب عن ذكر الله عز وجل»[15] ، «لا تخاصموا الناس لدينكم، فإن المخاصمة ممرضة للقلب... دروا الناس فإن الناس قد أخذوا عن الناس»[16] . والواضح أنك لا تستطيع تغيير قناعات الآخرين لأنهم أخذوا معارفهم من مشايخ يعتبرونهم أجلاء ويحترنموهم، وهناك رواية عن الإمام الباقر تؤكد على ضرورة الابتعاد عن الجدل والمناظرات العقيمة فتصف الشيعة بوصفٍ عجيب، يقول الإمام : «إنما شيعتنا الخرس»[17] ، تعبيراً عن ابتعادهم عن هذه الحالة العقيمة.
حتى أن بعض تلامذة الإمام الصادق قال للإمام : بلغني أنك كرهت مناظرة الناس؟ قال : «أما كلام مثلك فلا يكره، من إذا طار يحسن أن يقع، وإن وقع يحسن أن يطير، فمن هكذا لا نكرهه»[18] ، وقال عبدالأعلى: قلت لأبي جعفر : إن الناس يعيبون عليّ بالكلام، وأنا أكلم الناس. فقال : «أما مثلك من يقع ثم يطير فنعم، وأما من يقع ثم لا يطير فلا»[19] .
من هنا نؤكد على أن أي شخص لديه المقدرة على معالجة الموقف بالطريقة السليمة يصح له أن يناقش, أما إذا كان عاجزاً عن ذلك كأن تكون معارفه محدودة، أو لا يقدر على ضبط أعصابه فإن الجدل ليس من مصلحته، وإن المذهب لا ينتصر بالجدل، إنما ينتصر بالعمل الصالح.
ثالثاً- إثارة الوجدان والضمير والقيم الهادية
في طريق الإمام الحسين إلى العراق مرّ بمنطقة تًسمى (زرود) ووجد هناك خيمة زهير بن القين ، وكان عثماني الهوى، أي ممن يؤيدون الطلب بثأر عثمان، وبالتالي موقفه متأثر بالموقف الأموي. تُشير الروايات إلى أن زهير كان حريصاً على مخالفة الحسين في الطريق حتى لا يتورط في لقائه ولذا لم يتفق أن وقف ركب الحسين وركب زهير في مكانٍ واحد طيلة طريق الحسين إلى العراق إلا في هذه المنطقة (زرود) إذ لم يكن لزهير خيارٌ آخر.
فبعث إليه الإمام رسولاً يدعوه إليه، قال الراوي: فبينا نحن جلوس نتغذى إذ أقبل رسول الحسين فسلم، وقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني إليك لتأتيه، قال: فطرح كل إنسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير.
فقالت له زوجته: أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه ؟ سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه ! فأتاه زهير بن القين، فما لبث أن جاء مستبشرا قد أسفر وجهه، فأمر بفسطاطه ومتاعه فحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالق! الحقي بأهلك، فاني لا أحب أن يصيبك من سببي إلا خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فانه آخر العهد.
وفي رواية: من أحب منكم الشهادة فليقم ومن كرهها فليتقدم.
إني سأحدثكم حديثا غزونا (بلنجر) ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الفارسي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من المغانم ؟ فقلنا: نعم. فقال لنا: إذا أدركتم شباب آل محمد - وفي رواية: سيد شباب أهل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم بما أصبتم من الغنائم فأما أنا فاستودعكم الله فقالت له زوجته: خار الله لك وأسألك أن تذكرني يوم القيامة عند جد الحسين [20] .
وفي موقف آخر مع أشد الأعداء للحسين والذي قاد الجيش ضده وهو عمر بن سعد، مع ذلك تجد الإمام الحسين وفي اليوم التاسع من المحرم يطلب من ابن سعد اللقاء، فيتمنع، وفي الأخير وافق، تقول الرواية:
قال له الحسين : ويحك يا بن سعد ! أما تتقي الله الذي إليه معادك أراك تقاتلني وتريد قتلي, وأنا ابن من قد علمت دع هؤلاء القوم, واتركهم وكن معي, فإنه أقرب لك إلى الله تعالى.
فقال له: يا حسين إني أخاف أن تُهدم داري بالكوفة, وتنهب أموالي.
فقال له الحسين : أنا أبني لك خيراً من دارك.
فقال: أخشى أن تؤخذ ضياعي بالسواد.
فقال له الحسين: أنا أعطيك من مالي البغيبغة وهي عين عظيمة بأرض الحجاز, وكان معاوية، أعطاني في ثمنها ألف ألف دينار من الذهب فلم أبعه إياها, فلم يقبل عمر بن سعد شيئاً من ذلك.
فانصرف عنه الحسين – عليه السلام – وهو غضبان وهو يقول: ذبحك الله يا بن سعد على فراشك عاجلاً, ولا غفر لك يوم حشرك ونشرك, فو الله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيراً.
فقال له عمر بن سعد مستهزئاً: يا حسين إن في الشعير عوضاً عن البر[21] .
هذا هو نهج الإمام وسيرته، فحريٌ بالأمة أن تستقي من هذا النهج النبوي ما ينير لها طريق التقدم والازدهار.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وآله الطاهرين






رد مع اقتباس
المفضلات