7 ـ إجماع العلماء على عدم التحريف إلاّ من لا اعتداد به ، كما صرّح بذلك المحقّق الكلباسي المتوفى سنة (1262 هـ ) بقوله : «انّ الروايات الدالّة على التحريف مخالفةٌ لاجماع الاَُمّة إلاّ من لا اعتداد به» (4).
وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء ، المتوفّى سنة (1228 هـ) في (كشفالغطاء) : «جميع ما بين الدفّتين ممّا يُتلى كلام الله تعالى ، بالضرورة من المذهب ، بل الدين وإجماع المسلمين ، وأخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاَئمة الطاهرين عليهم السلام ، وإن خالف بعض من لايُعتدّ به» (1).
8 ـ إنّ التحريف ينافي كون القرآن المعجزة الكبرى الباقية أبد الدهر .
قال العلاّمة الحلّي المتوفّى سنة (726 هـ ): «إنّ القول بالتحريف يوجب التطرّق إلى معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة بالتواتر» (2). وذلك لفوات المعنى بالتحريف ، ولاَنّ مدار الاِعجاز هو الفصاحة والبلاغة الدائرتان مدار المعنى ، وبالنتيجة لا إعجاز حينما يوجد التحريف. فاحتمال الزيادة أو التبديل باطل ، لاَنّه يستدعي أن يكون باستطاعة البشر إتيان ما يماثل القرآن ، وهو مناقض لقوله تعالى : ( وَإن كُنْتُم في رَيْبٍ ممّا نَزَّلنا عَلى عَبْدِنا فأتُوا بسورَةٍ من مِثْلِهِ )(البقرة2: 23 )ولغيرها من آيات التحدي . وكذلك احتمال النقص بإسقاط كلمة أو كلمات ضمن جملةٍ واحدةٍ منتظمةٍ في أُسلوب بلاغي بديع ، فإنّ حذف كلمات منها سوف يؤدّي إلى إخلال في نظمها ، ويذهب بروعتها الاَُولى ، ولايَدَع مجالاً للتحدّي بها .
9 ـ ثبوت كون القرآن الكريم مجموعاً على عهد الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، كما يدلّ على ذلك كثيرٌ من الاَخبار في كتب الفريقين، حيث كان صلى الله عليه وآله وسلم يأمر أصحابه بقراءة القرآن وتدبّره وحفظه ، وعرض مايُروى عنه صلى الله عليه وآله وسلم عليه ، كما أنّ جماعة من الصحابة ختموا القرآن على عهده وتلوه وحفظوه، وأنّ جبرئيل عليه السلام كان يعارضه صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن كلّ عامٍ
مرة ، وقد عارضه به عام وفاته مرتين ، وهذا الدليل يُسقِط جميع مزاعم القائلين بالتحريف والتغيير ، وما تذرّعوا به من أنّ كيفية جمع القرآن ومراحل ذلك الجمع ، تستلزم في العادة وقوع هذا التحريف والتغيير فيه ؛ وسنأتي على تفصيل ذلك في موضوع جمع القرآن بإذن الله تعالى .
10 ـ اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين بالقرآن ، فقد كان (ص) حريصاً على نشر سور القرآن بين المسلمين بمجرد نزولها ، مؤكّداً عليهم حفظها ودراستها وتعلّمها ، مبيّناً فضل ذلك وثوابه وفوائده في الدنيا والآخرة ، وقد بذل المسلمون عناية فائقة واهتماماً متواصلاً بكلام الله المجيد بشكل لم يسبق له مثيل في الكتب السماوية السابقة ، فكان كلّما نزل شيءٌ من القرآن هَفَت إليه القلوب ، وانشرحت له الصدور ، وهَبَّ المسلمون إلى حفظه وتلاوته ، بما امتازوا به من قُوّة حافظة فطرية ، لاَنّ شعار الاِسلام وسمة المسلم حينئذٍ هو التجمّل والتكمّل بحفظ القرآن الكريم ، معجزة النبوّة الخالدة ، ومرجع الاَحكام الشرعية ، واستمروّا على ذلك حتّى صاروا منذ صدر الاِسلام يُعَدّون بالاَُلوف وعشراتها ومئاتها ، وكلّهم من حَمَلة القرآن وحُفّاظه وكُتّابه ، فكيف يُتَصوّر سقوط شيءٍ منه والحال هذه؟!
11 ـ دقّة وتحرّي المسلمين لاَي طارىءٍ جديدٍ في القران ، حيثُ إنّ العناية قد اشتدّت ، والدواعي قد توفّرت لحفظ القرآن وحراسته حتّى في حروفه وحركاته ، ويكفي أن نذكر أنّ عثمان حينما كتب المصاحف ، أراد حذف حرف الواو من (والَّذِينَ) في قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَكنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَها في سَبِيلِ اللهِ...(التوبة9: 34 ) . فقال أُبيّ : لتلحقنّها أو لاَضعنّ سيفي على عاتقي ؛ فألحقوها (1).
وروي أيضاً أنّ عمر بن الخطّاب قرأ ( والسَّابقُونَ الاولُونَ مِن المُهاجِرينَ وَالاَنْصَار الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ )(التوبة9: 100) فرفع (الانصار) ولم يلحق الواو في (الذين) فقال له زيد بن ثابت : ( وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ )! فقال عمر : (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُم باحْسَانٍ) . فقال زيد : أمير المؤمنين أعلم . فقال عمر : ائتوني بأُبيّ بن كعب ، فأتاه فسأله عن ذلك ، فقال أُبيّ : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهم باحْسَانٍ ) فقال عمر : فنعم ، إذن نتابع أُبيّاً (2). فإذا كان الخليفة لا يستطيع أن يحذف حرفاً ، فهل يجرؤ غيره على التصرّف بزيادةٍ أو حذفِ آياتٍ أو سورٍ من القرآن وتحريفها ؟!
12 ـ ويمنع من دعوى التحريف ، الواقع التاريخي أيضاً ، فإنّه إن كان التحريف في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو غير معقول بعد أن كان يشرف بنفسه على كتابته وحفظه وتعليمه ، ويُعْرَض عليه مرات عديدة .
وإنّ كان بعد زمانه صلى الله عليه وآله وسلم وعلى يد السلطة الحاكمة ، أو على يد غيرها ، فلم يكن يسع أمير المؤمنين عليه السلام والخيرة من صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم السكوت على هذا الاَمر الخطير الذي يمسّ أساس الاِسلام ، ويأتي على بنيانه من القواعد ، ولو كان ذلك لاحتجّ به الممتنعون عن بيعة أبي بكر وعمر والمعترضون عليهما في أمر الخلافة ، كسعد بن عبادة وأصحابه ، ولكان على أمير المؤمنين عليه السلام وسائر الصحابة أن يُظْهِروا القرآن الحقيقي ، ويبيّنوا مواضع التحريف في هذا الموجود وإن حدث ما حدث ، لكنّنا لم نجد ذكراً لذلك ، لا في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام المعروفة بالشقشقية ، ولافي غيرها من خُطبَهِ وكلماته وكتبه التي اعترض بها على من تقدّمه ، ولافي خطبة الزهراء عليها السلام المعروفة بمحضر أبي بكر ، كما لم نجد أحداً من الصحابة أو من غيرهم ، قد طالبهما بإرجاع القرآن إلى أصله الذي كان يُقْرَأ به في زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو نبّه على حدوث التحريف ومواطنه ، وفي ترك ذِكر ذلك دلالةٌ قطعيةٌ على عدم التحريف .
أمّا دعوى وقوع التحريف في زمن عثمان ، فهو أمر في غاية البُعد والصعوبة ، لاَنّ القرآن في زمانه كان قد انتشر وشاع في مختلف أرجاء البلاد ، وكثر حُفّاظه وقُرّاؤه ، وإنّ أقلّ مساسٍ بحرمة القرآن لسوف يُثير الناس ضدّه ، ويُوجِب الطعن عليه وإدانته بشكلٍ قويّ ومعلنٍ ، ولا سيما من الثائرين عليه الذين جاهروا بإدانته فيما هو أقلّ أهميةً وخطراً بكثير من التحريف ، لكنّنا لم نسمع أحداً طعن عليه في ذلك ، فهل خفيت هذه الآيات أو السور التي يُدّعى سقوطها من القرآن ، على عامّة المسلمين ، ولم يطّلع عليها سوى أفراد قلائل ؟!
ولو كان ذلك لكان على أمير المؤمنين عليه السلام إظهار هذا الاَمر ، وإرجاع الناس إلى القرآن الحقيقي بعد أن صار خليفةً وحاكماً ، ولم يعد ثمّة مايمنع من ذلك ، وليس عليه شيء يُنْتَقَد به ، بل ولكان ذلك أظهر لحُجّته على الثائرين بدم عثمان . فكيف صحّ منه عليه السلام وهو الرجل القويّ الذي فقأ عين الفتنة أن يهمل هذا الاَمر الخطير ، وهو الذي أصرّ على إرجاع القطائع التي أقطعها عثمان ، وقال في خطبةٍ له عليه السلام : « والله لو وجدته قد تُزوِّج به النساء وُملِك به الاِماء لرددته ، فانّ في العدل سَعَة ، ومن ضاق عليه العدل
المفضلات