--------------------------------------------------------------------------------
..... فمن يكون مراده أن تقبل منه فإحسانك بقبول ذلك الشيء منه ، وإن أردت أن تكون يدك العليا فكافئه عنه بأحسن منه ، أو مثله إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأمّل المراعي لدقائق أهل البيت (ع) لوصاياهم وسجاياهم.
فإذا تمت لك المعاشرة مع الخلق لأن تنفعهم ، وقطعت نظرك عن الانتفاع بهم بالمرة ، بحيث أنّ كلّ نفعٍ تؤمله منهم تعدل به إلى من لا تخيب عنده ، ولا يقربه البخل في حال ، فلا تستغرق أوقاتك بالخلق ، وتجعلهم شغلك وهمك ، فإنك مأمور من أهل البيت (ع) : أقلل معارفك ، وأنكر من عرفت. ( المستدرك 11-387)
والحكمة في ذلك أن لا يشغلوك عن التوجّه إلى خالقك ، فإن في التفرغ للعبادة ، وخلو البال عن كل شاغل يشغلك عن الله معنوية لا تُنال بمعاشرة الخلق ، وفي الحميّة معنى ليس في العنب.
ولهذا قال أحد الأئمة (ع) لمن قال له: خلوت بالعقيق وتعجّلت بالوحدة: يا هذا !.. لو ذقت حلاوة الوحدة لاستوحشت من نفسك . البحار : 75/254..
فالمراد أنك حيث تحتاج إلى معاشرة الخلق لا بدّ أن يكون طورها على ما وصفناه لك.
وليس المراد أنك تجعل شغلك الاشتغال بمصالح (الخلق) فلا بدّ من توزيع الوقت وتقسيمه ، فتجعل لك وقتا للتضرّع إلى الله ووقتا لمعاشرة الخلق ، بأن يكون جالبا لرضاء الله ، ومقصوداً به وجهه ، وليكن حظك من الأول أوفى ، وليكن هو همّك وبغيتك ، فإنه المطلوب منك بالأصالة .....(5)
--------------------------------------------------------------------------------
(5)إن قيد بالأصالة من القيود ، التي لا ينبغي أن لا يغفل عنها أبداً.. فالملاحظ أنّ البعض من المبتدئين ، يشتغل بالقيام بما لله تعالى رضا في أصله ، ثم يستغرق في ذلك بما يوجب له الذهول عن الله تعالى ، كما لو دخل مجلساً لإصلاح ذات البين ، فيتوغل في عالم إصلاح ذات البين بما يجعله يتعامل وكأنه أحد المتخاصمين ، فيقسو في القول ، وقد يجيز لنفسه أن يستمع إلى ما لا يجوز الاستماع له ، كما إذا تجاوز الخصم حدّه فذكر ظلماً مستورا لا يتعلّق بالمظلوم ، وهكذا بدأ بقصد القربة ابتداء لا استدامة.. والحال أن الدوام أشق من الإبتداء كما هو معلوم ..( المحقق )
--------------------------------------------------------------------------------
...... وحتى يتأتى لك إرجاع الثاني إلى الأول وإلا ملت به إلى حظ النفس ، وصار وبالاً عليك ، فلا تنال منهم دنيا ولا آخرة ، ووقعت فيما فيه الناس من الظلم والتظلم ، وألم الشكوى من جميع المعاشرين ، كما أنهم لا يزالون في الشكاية منك فلا تنال رضاهم أبداً.
لا خير ولا راحة إلا في الإقبال على الله ، والتوجّه إليه ، وبذلك يسهل كل شيء من مهمات الدنيا والآخرة ، وكل تعبٍ وهمٍّ وشدةٍ وغمٍّ فإنما يترتب على الغفلة عن الله والإدبار عنه ، وهذا ما يتعلق بالأمر الأول من الأمور التي تلزم من يريد أن يسلك سبيل الله .
الثاني: أن يراعي حقوق الخلق في الله ، فإنّ مراعاة حق الخلق في الله مراعاة لحق الله ، كما أن إهمالها إهمال لحق الله.
فإذا أردت ذلك فاعلم أن لهؤلاء حقوقاً كثيرة يلزمك أن تعرفها حتى لا تجهل حق الله فيهم ، فإذا عرفتها استعنت بالله على أدائها ، والقيام بها ، وإذا عجزت عنها كان اعترافك بالعجز قائماً مقام القيام بها.
فأحدها : أنهم يقولون : (علي ولي الله) وكل من يقول هذه الكلمة الشريفة كيف يمكنك القيام بحقه ؟.. بل كيف يمكنك معرفة حقه؟.. بل كيف تتصور حقه ؟..
هيهات !.. هيهات !.. حق من يعترف بهذه الكلمة تابع لحق من هو منسوبة إليه وهو علي (ع)، وحقه تابع لحق رسول الله (ص) ، وحق رسول الله (ص) تابع لحق الله تعالي ، وكيف يمكن القيام بحق الله وقد قال رسول الله (ص) لأبي ذر: ( إنّ حقوق الله جلّ ثناؤه أعظم من أن يقوم بها العباد ، وإنّ نِعَم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أمسوا تائبين ، وأصبحوا تائبين ). البحار : 74/76..(6)
--------------------------------------------------------------------------------
(6)لاحظ هذا التدرج الذي نبّه عليه المؤلف ، وكيف أنّ السالك الملتف لا ينظر إلى الأمور بعفوية وسذاجة ، فهو ينتقل من المبادئ لينتهي إلى الغايات ، إذ ينظر إلى الأمور كلها على أنها منتسبةٌ إلى الله تعالى ، وكلما اشتدّ انتسابه إليه عظم حقه لديه ، فليس الإخلال بحقّ المؤمن إخلالاً بحقّ فرد مبتور صلته بمولاه ، بل إخلالٌ بمن أخذ الله تعالى على نفسه عهداً أن يدافع عنه .. ومن الذي له قدرة المواجهة ، مع من جعل الله تعالى نفسه وكيلا عليـه وناصراً لـه ؟....( المحقق )
--------------------------------------------------------------------------------
وقد قال رسول الله (ص) لبعض أصحابه وهو يشير إلى علي (ع):
( والِ ولي هذا ولو أنه قتل أبيك وولدك ، وعاد عدوّ هذا ولو أنه أبوك وولدك).الوسائل : 16/178..
فإذا أوجب له انتسابه لعلي (ع) وموالاته له أن تسامحه في قتله لأبيك وولدك ، وتغفر له ذلك ، فكيف بما دون ذلك؟!..
بل لا يكتفى منك بمجرد المسامحة والعفو ، بل يجب له مع ذلك أن تحبه وتكرمه وتحترمه ، كما هو مقتضى الموالاة ، بل لو فديت له نفسك لكان قليلا في حق من هو منسوب إليه ، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
وما حب الديار شغفن قلبي ----- ولكن حب من سكن الديارا
فأنت إذا تسامحت مع محب أمير المؤمنين (ع)فالله أولى بمسامحتك ، وأن يغفر لك كل ذنب إكراما لمحبتك إلى أمير المؤمنين (ع)، فإنّ الله أشدّ حباً منك لأمير المؤمنين (ع).
وكلما كان مقصراً في طاعة أمير المؤمنين (ع) ، ولاحظت مجرد الانتساب ، واحترمته لذلك ، فيكون احترامك لأمير المؤمنين (ع) أعظم.
إذ من هو بذاته مستحق للاحترام ربما يكون احترامك له من جهة قابليته بذاته للاحترام لا لجهة الانتساب المحض ، فيكون دالا على شدة الاحترام ، إذ لولا القوة والشدة لما غلبت على الموانع المعارضة.
فهذا أحد الحقوق وفيه الكفاية ، وأنى لك بالقيام به !..
فكيف إذا انضمّ إلى ذلك أنه من ذرية علي (ع) ؟..
وكيف إذا انظم إليه كونه من زائريه ، أو كونه من مجاوريه ، أو من خدام حضرته ، أو اسمه اسمه أو اسم أحد أولاده (ع) ، أو كونه يسمّى بما يدل على الانتساب إليهم ، كعبد علي ، أو عبد الحسين ؟..
وأما حق الرحمية ، وحق المجاورة ، وحق المرافقة ، وحق الدعاء ، وحق تعليم القرآن ، أو تعليم حرف من العلم ، أو كمال من الكمالات ، أو كونه أكبر منك سناً ، أو كونه مجتهداً لك ، أو إماماً لك في الجماعة ، أو كونه محسناً إلى بعض أرحامك ، أو إلى بعض جيرانك ، أو كونه سائلاً عنك ، أو طالباً ، أو محسناً بك الظنّ ، أو نحو ذلك مما اشتملت عليه رسالة الحقوق لمولانا علي بن الحسين (ع) ، وكلها حقوق عظيمة عند أهل البيت عليهم السلام ، ومسؤول عنها يوم القيامة .( التحف- 255 ) (7)
--------------------------------------------------------------------------------
(7)إِنّ هذه الرسالة لا يمكن أن يغفل عنها السالكون إلى الله تعالى ، ومن أقدر من زين العباد أن يكون شارحاً لحقوق الله وعباده ؟!.. إنّ من الضروري أن يحيط السالك علماً بمجموعة من النصوص والحقوق الواردة عن أئمة الهدى (ع) في مجال السير إلى الله تعالى ، إذ هم أعلم الخلق بهذا الأمر ، فهم المعنيون في الدرجة الأولى بكل خطابات القرب .. وكم من الخيبة والخسران أن يفني الإنسان عمره في سبر كلمات من يدّعي العرفان تاركاً أصحاب البيوت التي أذن الله تعالى أن يذكر ويرفع فيها اسمه !..( المحقق )
--------------------------------------------------------------------------------
فأنى لك بالخلاص منها ، والعذر عنها ، وقد ورد ما معناه : أن ثلاثة يشكون يوم القيامة إلى الله : مسجد مهجور ، وقرآن مطروح في البيت عليه غبار لا يتلى فيه ، وعالم في محله لا يسمع منه . عدة الداعي : 272
فما حال من أبرز للحساب ، واجتمع للشكوى عليه عند الحالكم العادل ثلاثة : بيت لله ، وكتاب الله ، وولي الله !..
فأيهم لا يسمع شكايته ؟..
وأي هؤلاء ينكر حقه وحرمته عند الله ؟..
فهذه حقوق عظيمة كيف يمكنك الاعتذار عنهــا في ذلك الموقف العظيم ؟.. فقد ورد : أنّ العاطس يعطس فلا يُسمت فيطالب بحقه فيقضى له يوم القيامة.
فيا أيها الأخ المسترشد !.. أنت إذا نظرت بعين العقل - التي أودعها الله فيك لتبصر بها - لا يكون همّك إلا الاعتراف بالتقصير والسعي في خلاص رقبتك من الحقوق التي لزمتك ، وترى أنهم وإن بالغوا في مسائلتك فأنت بعدُ مُطالب بالحقوق التي لهم عليك ، فيكون همّك استعفائهم ، والاعتذار منهم ، والمبالغة فيما يمكنك من الإحسان إليهم ، رجاء ليعفو الله ، ويرضيهم عن بعض الحقوق.
فأنت إن نظرت إلى الخلق بهذه العين التي أودعها الله فيك ، سهل عليك سلوك سبل الله ، وهذا هو الأمر الثاني.
الثالث : أن يستوحش من الخلق أنسا بالله ، فإنّ العاقل يلزمه أن يكون مقبلاً على شأنه ، حافظاً للسانه ، عارفاً بأهل زمانه ، مستوحشاً من أوثق إخوانه.
فمن هو هكذا دعا له علي (ع) بقوله: شدّ الله من هذا أركانه ، وأعطاه يوم القيامة أمانه . الكافي : 1/49..
وفي الكافي عن جابر قال : دخلت على أبي جعفر (ع) فقال:
يا جابر !.. والله إني لمحزون ، وإني لمشغول القلب.
قلت : جعلت فداك !.. وما شغلك ، وما حزن قلبك ؟..
فقال : يا جابر !.. إنه من دخل قلبه خالص دين الله ، شغل قلبه عمّا سواه . الكافي : 2/ 107..
وفيما كتبه أمير المؤمنين (ع)إلي بعض أصحابه : فإنّ من اتقى الله عزّ وقوي ، وشبع وروي ، ورفع عقله عن أهل الدنيا ، فبدنه مع أهل الدنيا وقلبه وعقله معاين الآخرة . [ الكافي : 2/136] .. انتهى.
فالمؤمن إذا أنس بألطاف الله ، وذاق طعم حلاوة ذكر الله ، يلزمه الوحشة من مفارقة هذه الحالة ، فلا يرضى بمفارقتها.
فإذا منّ الله على عبده المؤمن بالتأييد ، ألزم قلبه هذه الحالة وأشغله بها ، ومكّنه مع ذلك من الالتفات معها إلى ما دونها ثانياً وبالعرض ، وإن كان أصل شغله بها وأصل التفاته إليها ، فلا يزال مستوحشاً من هذه الضميمة ، ويريد التفرّغ لما هو المطلوب له بالأصالة ، والمقصود له أولاً وبالذات ، إلا أن هذه الوحشة في قلبه لا تظهر على جوارحه .....(8)
--------------------------------------------------------------------------------
(8)من الضروري – كما أشار المؤلف – كتمان هـذه الحالات القدسية عن الخلق ، فقد لا يكون عند الإبداء قاصداً غير الحق ، ولكن لا يؤمن منه العجب اللاحق في ساعات الغفلة التي لا يخلو منها غير المعصوم .. أضف إلى تعريض المؤمن عبد غيره إلى سوء الظنّ وتهمة الرياء ، وبذلك يكون مخالفاً أمر مولاه في أن لا يجعل نفسه في مظانّ التهم .. فإنّ عزة المؤمن من شؤون الحق التي لم يوكلها الله تعالى إلى عبده ..( المحقق )
--------------------------------------------------------------------------------
.....كما قال أمير المؤمنين (ع)في وصف المؤمن : حزنه في قلبه ، وبشره في وجهه . البحار : 64/305..
وربما يخبر بها إن اقتضى المقام إظهارها ، كما مرّ في حديث الباقر (ع) مع جابر.
فهذا معنى كون المؤمن مستوحشا من أوثق إخوانه.
فما لم تتم لك هذه الحالة ، وهي كون الغالب عليك الاشتغال بالله ، والوحشة عمن سواه ، ولو كان من أوثق إخوانك ، فلا تقدر على جعل معاشرتك للخلق ذريعةً إلى القرب إلى الله ، لكون الغالب عليك الميل الطبيعي ، وحظ النفس من الأنس بالجنس البشري ، فتصير عبداً للنفس ترضى لها وتغضب لها ، وتخرج عن شرف العبودية لله ، وما خلقت لذلك ، قال الله عزّ وجل : {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} . الذاريات/56
منقول
المفضلات