خرجت من المنزل وأغلقت البوابة الخارجية, ثم خطت خطوتين نحو السيارة, ثم توقفت وتراجعت للوراء.
ربما لم تستوثق من السيارة, فهي ليست السيارة السابقة التي اعتادت عليها. فتحت النافذة ونظرت إليها وقلت:
"تفضلي"
وربما لم تسمع صوتي لأنها لم تتحرك.. فأطللت برأسي مستغربا وأومأت إليها أن تعالي.. لكن رغد نظرت إلي نظرة غريبة ثم سألتني:
"أين دانة؟"
فقلت:
"ذهبت مع زوجها وطفلتها في مشوار"
وإذا بي أرى رغد تتراجع نحو بوابة منزل آل المنذر... وتهم بقرع الجرس!
خرجت من السيارة مستغربا من تصرف رغد وأقبلت إليها وقلت:
"ماذا ستفعلين؟؟"
فقالت دون أن تنظر إلي:
"سأتصل بدانة وأطلب منها الحضور مع نوّار لاصطحابي"
عندها شعرت بطعنة قوية تخترق صدري. اقتربت من رغد وقلت متألما:
"لماذا تفعلين ذلك؟؟"
فالتفتت إلي وأجابت حانقة:
"وهل تنتظر مني أن أركب السيارة معك أنت بمفردي؟"
وكانت هذه الطعنة أشد من سابقتها... وهمت رغد بأن تقرع الجرس فتداركتها مسرعا:
"أرجوك لا تفعلي... لا تحرجينا مع آل المنذر"
ففهمت رغد حرج الموقف و سحبت يدها... قلت:
"تعالي لنعود إلى المنزل الآن... أرجوك"
فوقفت برهة مترددة... ومر تيار قوي من الهواء ارتعدت له فرائصنا... فقلت:
"هيا فالريح تشتد"
وما كان منها إلا أن سارت على مضض وركبت السيارة كارهة ومشيحة بوجهها للعالم الآخر... فسلكنا طريق العودة بصمت الموتى... ووحشة المقابر..
عندما وصلنا إلى البيت, أردت أن أتحدث معها فهي لم تكلمني منذ حضورها للوطن, بل منذ تركتها في منزل دانة... قبل أكثر من عام... لكنها وفور دخولها المنزل أسرعت مهرولة إلى الطابق العلوي...
لحقت بها وأنا أسير منكسر الخاطر... حتى إذا ما اقتربت من غرفتها وجدت الباب مغلقا وصوتها يتخلله وهي تتكلم بغضب قائلة:
"... لكنه أخوك أنت وليس أنا"
"... عودي فورا"
هبطت للطابق السفلي... وانزويت على نفسي في غرفة المعيشة والتي عدت أستغلها كغرفة نوم لي... وجعلت أعض أصابعي حسرة على صغيرتي رغد...
قدمت دانة مع طفلتها وزوجها بعد نحو ساعة... وسألتني عما حصل فأخبرتها بموقف رغد مني... وبأن ذلك جرح شعوري كثيرا... وبأنني سأعود إلى شقتي إن كان وجودي من حولها يزعجها لهذه الدرجة...
ربما كان الأسى صارخا بأعلى صوته على وجهي للحد الذي جعل شقيقتي تمد يديها وتمسك بيدي بحنان بالغ وتربت علي وتقول:
"لا تبتئس هكذا يا أخي الحبيب.. إنها لا تزال تحبك... لكنها أيضا لا تزال تعتقد أنك... كنت تسخر من عواطفها تجاهك"
رفعت بصري إلى شقيقتي وحملقت بها مندهشا.. فأغدقت عليّ نظرات التفهم والحب والتعاطف, وكأنها كانت تقرأ كل ما يدور برأسي وترى ما يختبئ في صدري...
وإذا بها تقول:
"لسنين طويلة.. كانت تضع ساعة يدك الرجالية حول معصمها.. كنا نسخر منها.. لكنها لم تأبه بنا.. أظن أنها كانت مولعة بك منذ الطفولة.. وكانت تنتظرك.. لو كنت اعترفت ذلك اليوم بحقيقة شعورك أنت أيضا.. قبل رحيلك عنا.. ربما كنا حللنا الموضوع بشكل أقل إيذاء.. أخي سامر لم يكن أبدا ليرغب في الزواج من فتاة لا تحبه.. بل تحب شقيقه... واكتشف أيضا أن أخاه كان يحلم بالزواج منها"
وتوقفت قليلا تتأمل ذهولي من كلامها... قلت في دهشتي من صراحتها, محاولا إنكار الحقيقة:
"ما الذي... تهذين به!؟"
لكن دانة أدارت وجهها يمينا ويسارا وقالت:
"لا تحال يا وليد! لا جدوى من الإنكار.."
وأخذت تنظر إلي بنظرات عميقة... كأنها تكشف كل أفكاري.. ثم واصلت:
"سامر علم من رغد بحقيقة ما حصل قبل سنين مع ذلك الفتى الذي قتلته... وسبب قتلك له.. وكتمك الحقيقة وتحملك السجن.. ربط بين الأمور واستنتج كل شيء.. لذا.. قرر الابتعاد عن رغد والارتباط بأخرى... ليثبت لك أنت بالذات... بأنه يستحيل أن يتزوج بفتاة كنت تحلم بها أنت يا وليد..."
في اليوم التالي.. وأثناء تناولنا طبق التحلية, ونحن جلوس في غرفة المعيشة نشاهد التلفاز... تذكرت شيئا سرعان ما ذهبت لجلبه, وعدت به أمده نحو رغد...
"رغد هل تذكرين هذه؟"
وأنا أحاول الظهور بالمرح علها تتجاوب معي... علّنا نبدأ صفحة جديدة.. علّها تمنح قلبي لحظة اطمئنان واحدة... كانت مجموعة الصور التي رسمتها رغد لي ليلة أن وقعت من أعلى الدرج... تذكرونها؟ صور بقلم الرصاص كنت قد سلمتها إياها قبل سفرها الأخير إلى الشمال.. واسترجعتها من غرفتها السفلية بعد عودتي من خارج الوطن...
رغد تناولت الأوراق وراحت تقلبها وتتأملها... كنت مبتسما ومنتظرا تعليقا يجبر بخاطري بعد موقف البارحة... لكنني فوجئت برغد تمزق الأوراق وترمي بها نحوي وتقول:
"أنا لا أذكر شيئا كهذا ولا يهمني أن أذكر... ولا تنادني باسمي المجرد ثانية... هل فهمت يا سيد وليد؟؟"
وقامت من مقعدها وجرت مسرعة مغادرة الغرفة. حدث كل هذا أمام مرأى دانة ونوّار... اللذين ظلا يحملقان بي مذهولين.. ومنتظرين ردة فعلي..






رد مع اقتباس
المفضلات