تنبهت على صوت شيء مزعج... صوت يتكرر بانتظام... مرة بعد أخرى... كان صوت منبه...
أغمضت عيني بقوة... فأنا أشعر بحاجة مُلحّة لمتابعة السيارة... أشعر بأنني أستيقظ من أعماق أعماق نومي... ولا أريد أن أنهض...
لكن الرنين المتكرر المزعج أجبرني على فتح عيني والانتباه لما حولي...
اكتشفت... أنني كنت أنام على الأرض... في غرفة رغد... فتذكرت هجوم العساكر وانتقل دماغي فجأة من أعماق النوم إلى قمة اليقظة...
حاولت أن أهبّ جالسا فشعرت بشيء ما يربط يدي ويعيقني هن النهوض وداهمتني آلام حادة في جسدي كله... أعادتني إلى وضع الاضطجاع مرغما... التفت ببصري إلى اليسار... فوجدت رغد نائمة وهي في وضع الجلوس... ملاصقة لي... وقد استندت إلى سريرها وضمت يدي اليسرى بين يديها...
كان المنبه يتوقف عن الرنين قليلا ثم يعاود... ولكن رغد لم تنتبه عليه... ومع هذا... فإنني ما إن سحبت يدي حتى استيقظت ورفعت رأسها مفزوعة...
التقت نظراتنا... أنا الممدد على الأرض...بِخوْرِ قِوى... وهي الجالسة بقربي بفزع...
"وليد"
كانت هي أول من تكلم... بلهفة وقلق وهي تنحني نحوي وتحملق بعينيّ...
استخدمت يديّ الاثنتين لأنهض عن وضعي المضطجع... بكل ضعف... كعجوز طاعن في السن... مدقوق العظام مترهل البنية... واهن العضلات... كانت الآلام تقرص كل أجزاء جسمي قرصا... وكان أنفي شبه مسدود... بقطع الدم المتخثر في جوفه... وكان عنقي يؤلمني بشدة... وأنا عاجز عن تحريكه في أي اتجاه...
أخيرا أحسست بيد رغد تمسك بي... فأرغمت عنقي على الالتفات إليها ومددت يدي أشد على يدها وقلت:
"هل أنت بخير؟؟ هل تأذيت صغيرتي؟؟"
ورأيت الدموع تتجمع في عينيها بمرارة... فانهرت أكثر مما أنا منهار وأطلقت صوتي كالنحيب قائلا:
"آسف... سامحيني..."
فأي خزي وأي عار...أشد من أن يعتدى على حرماتك بشكل أو بآخر... وأنت ترى وتعجز عن الدفاع؟؟
طأطأت بصري عنها خجلا... لكنها اندفعت إلي كالسهم المصوب... إلى القلب...
رن المنبه من جديد... وكان إلى الجانب الآخر من السرير... فقامت رغد وزحفت على سريرها إليه وأوقفته.
قلت:
"كم الساعة؟؟"
فأجابت:
"الثالثة وأربعون دقيقة"
فاضطربت دقات قلبي قلقا... وأنا أتخيل سامر...
وقفت وأنا أستند إلى السرير... ولكنني سرعان ما أحسست بالكون يظلم من حولي فجلست عليه وهويت منكبا برأسي فوقه...
رغد هتفت بفزع وهي تنحني نحوي:
"وليد..."
فأجبت:
"دوار... انتظري قليلا"
وقد كانت الغرفة تدور من حولي... وقلبي يخفق بقوة... والهواء لا يكفي لملء صدري... أما يداي فقد كانتا ترتعشان... وما كنت قادرا على التحكم بهما...
استمر هذا الشعور بضع دقائق... ثم زال تدريجيا... ولكنه عاودني بصورة أخف عندما رفعت رأسي من جديد...
أظن... أنني نزفت دما كثيرا... ولهذا أشعر بالدوار والاختناق...
سمعت رغد تقول:
"أرجوك ابق مضطجعا"
فالتفت إليها بإعياء وقلت:
"يجب أن ننهض... سامر ينتظرنا"
رغد قالت منفعلة:
"أنت جريح... لديك إصابات كثيرة... لا يمكنك التحرك"
فقلت:
"سامر..."
والتفت ناحية الهاتف الثابت ورأيته مرميا على الأرض... ثم التفت إلى رغد وقلت:
"هاتفك"
وكان هاتفها المحمول موضوعا إلى جانب المنبه. ناولتني إياه فاتصلت بشقيقي ملهوفا للاطمئنان عليه...
"نعم رغد"
رد أخي... فقلت بصوت هامس:
"هذا أنا وليد... هل أنت والعم بخير؟؟"
"نعم. ننتظركما"
واطمأن قلبي على أخي فأنهيت المكالمة بسرعة ووضعت الهاتف على السرير... ووقفت ببطء وحذر... محاولا الاعتماد على رجليّ... اللتين كانتا تستصرخان من الألم... وعندما خطوت خطوة واحدة... تفاقم الألم في ظهري وشعرت بأن فقراته تكاد تتفكك وتتبعثر...
أطلقت أنة ألم من أعماق حنجرتي... وتصلبت في مكاني لا أقوى إلا على جذب الأنفاس...
رغد وقفت على رجليها... السليمة والمجبرة... وأمسكت بيدي وطلبت مني أن أجلس.
"يجب أن نذهب يا رغد... لا وقت لدينا"
قلت, فردت معترضة:
"كيف وأنت بهذه الحال؟ لماذا لا تخبره بما حصل؟"
فهتفت بسرعة:
"كلا... لا"
قالت:
"ولكن..."
فقلت مؤكدا:
"إن علم سامر بما حصل فسوف يأتي... أنا متأكد أنهم يراقبون المنزل الآن..."
شهقت رغد خوفا... ثم سألت:
"إذن... كيف سنخرج؟؟"
فقلت:
"سأتفقد الأمر"
تلفتت رغد من حولها بحثا عن عكازها... وعندما رأته... ذهبت سائرة على جبيرتها وتناولته... ثم قدمت إلي وسارت ملاصقة لي... نسير ببطء وحذر... إلى أن فتحنا الباب وخرجنا من الغرفة...
كان البيت يخيم عليه السكون... استنتجنا أنه لا أحد في داخله على الأقل... توجهت إلى باب المدخل وأوصدته... وعدت إلى رغد وقلت:
"لا احد هنا. سيُرفع الأذان الآن... سنخرج بعد الصلاة مباشرة... سأصعد للأعلى وأنظر من الشرفة"
قالت رغد بسرعة:
"ماذا؟؟ كيف ستصعد الدرجات وليد؟؟ أنت مصاب... ولا أريد أن أبقى وحدي هنا أرجوك"
قلت:
"تعالي... سأرافقك إلى غرفتك. ألزميها حتى آتيك"
كانت رغد تهز رأسها معترضة, متوسلة ألا أتركها وحدها... لكنني كنت أريد تفقد الشارع من الشرفة لأتأكد من أن الشرطة ليست في الجوار...
وعلى هذا أعتدها كارهة إلى غرفتها وأقفلت عليها الباب وحملت المفتاح معي, وتركتها لتستبدل ملابسها وتصلي... وصعدت الدرج خطوة خطوة... أكابد المشقة والألم... إلى الطابق العلوي...
لقد كنت أسير مستندا على كل شيء... السياج... الجدران... الأثاث... كنت مرهقا جدا... وآلام جسمي تكاد تقتلني...
ذهبت إلى الشرفة ألقيت بنظرة على الخارج... فرأيت الضباب يغمر الأجواء... ويحول دون رؤية شيء...
توجهت بعدها إلى غرفتي... والتي ترك رجال الشرطة بابها مفتوحا على مصراعيه, كما فعلوا ببقية أبواب غرف المنزل لدى تفتيشهم لها يوم الأمس...
كنت أريد أن أستحم وألبس ملابس نظيفة وأؤدي الصلاة... وكم هالني المنظر الفظيع المزري لوجهي حين رأيته في المرآة...
أنهيت استحمامي وضمّدت ما أمكن من جروحي على عجل, واضطررت لارتداء قبعة لإخفاء جرح ناصيتي... وبعد الصلاة ذهبت لألقي نظرة مرة أخرى من الشرفة... كان الضباب كثيفا... لكنني سمعت أو ربما توهمت سماع صوت صفارة سيارة شرطة يشتد ويقترب...
أصبت بالهلع... فهرولت مسرعا نحو الدرج وأنا أهتف:
"رغد"
هبطت السلالم بأسرع ما أمكنني... أتعثر بخطواتي... غير آبه بأوجاع رجلي... شبه متزحلق على قدمي... وتوجهت نحو غرفة المعيشة... ومنها أخذت الحقيبة اليدوية الحاوية للنقود والحاجيات الأخرى... وكذلك هاتفي وهرولت إلى غرفة رغد...
لم أطرق الباب... بل هتفت باسمها وأنا أدخل المفتاح في ثقبه وأقبض على المقبض ثم أديره وأدفع بالباب بسرعة وأندفع إلى الداخل...
كانت رغد تلبس رداء الصلاة... وتجلس على الكرسي في اتجاه القبلة... وفي يدها مسبحة... فهي بطبيعة الحال لم تكن تستطيع السجود على الأرض بسبب الجبيرة...
"رغد... هيا بسرعة... أظنهم عائدون"
قلت هذا وأنا أندفع نحوها بسرعة... وأمسك بيدها وأحثها على النهوض...
وقفت رغد على رجليها والهلع يجتاحها... وقالت بفزع:
"ماذا؟؟"
قلت:
"الشرطة قادمة... لنخرج بسرعة"






رد مع اقتباس
المفضلات