عند الباب مباشرة ، أوقفت سيارتي أخيرا...
بقيت قابعا في مكاني لا أجرؤ على الحراك ... مركزا بصري على البوابة...
كأنني أستأذنها بالدخول ... كأنها تستغرب عودتي ... كأنها نسيتني !
مرت لحظات ليست كاللحظات، و أنا في سكون شارد ...
تحدّثت أروى قائلة بعد أن طال بنا البقاء :
" أليس هذا هو المنزل ؟ ألن ننزل ؟؟ "
التفت إليها و منها إلى الوراء ، حيث تجلس صغيرتي بتعبيرات وجهها المضطربة
و نظراتها المتوجسة ...
قلت بصوت يكاد يختنق في حنجرتي :
" منزلنا يا رغد ! "
رأيت يدها تمتد من موضعها على صدرها إلى عنقها ...
كأنها تمنع صرخة من الانبثاق قهرا من أعماق حنجرتها الصغيرة ...
تحدّثت خالتي أم أروى الآن قائلة :
" هل سننزل هنا ؟ هل تملك مفاتيح للمنزل ؟؟ "
أجبتها بتحريك المفاتيح المتدلية من مقود السيارة
و التي تضم مفاتيح المنزل المهجور ...
عدت بنظراتي إلى رغد ... فهي أهم ما يعنيني في الأمر ...
لطالما كانت هي الأهم ... قلت :
" هيا بنا ... توكّلنا على الله "
بدا على صغيرتي المزيد من التوتر و القلق ، كانا جليين لي ...
أخيرا فتحنا الأبواب و هبطنا أرضا ...
صغيرتي وقفت و سارت شبه ملتصقة بي ، و كأنها تخشى شيئا ...
فتحت البوابة الرئيسية أخيرا ... و سمحت لطوفان الذكريات باجتياحنا ....
الحديقة الخارجية ... التي لطالما كانت غناء خضراء زاهية ...
هي الآن مجرد صحراء موحشة تعذّر حتى على الأشواك البرية العيش في رحابها ...
لم أكن أشعر بقدمي و هي تسير خطوة بعد خطوة نحو الداخل ...
اقتربنا من الساحة المرصوفة بقطع الرخام ......
في هذه الساحة ... كانت فيها رغد تقود دراجة سامر فيما مضى ...
تجاوزنا الباب الخارجي للمنزل ، و سرنا متابعين طريقنا ...
حتى بلغنا الساحة الخلفية للمنزل ... و من خلال بصيص خفيف للضوء
وقعت أنظارنا على أدوات الشواء المركونة هناك في زاوية الساحة منذ سنين ...
ما أن رأتها رغد ، حتى رفعت يدها اليمنى و أمسكت بذراعها الأيسر...
كأنها شعرت بلسعة الجمر تحرق ذراعها ... مكان الندبة القديمة ...
قلت بعطف :
" رغد ! أأنت على ما يرام ؟؟ "
و بالرغم من الظلام ، استطعت أن ألمح القلق المرسوم على وجهها الصغير ...
قلت أخيرا :
" دعونا ندخل إلى الداخل "
و رأيت يد رغد اليمنى و هي تترك ذراعها الأيسر...
و تقترب شيئا فشيئا من يدي ، و تلتحم بها !
أظنها كانت للشعور ببعض الأمان ، فقد كان المكان موحشا
عدا عن الذكريات الأليمة التي يثيرها ...
تركت يدي أسيرة يديها حتى بلغنا الباب الداخلي
و أردت استخدام يدي في فتح الباب ، إلا أنها لم تطلق سراحها ...
بيدي الأخرى فتحت القفل و الباب ، و خطوت الخطوة الأولى نحو الداخل ...
وظلت يدي اليسرى مسحوبة إلى الوراء ، مربوطة بيد رغد ...
كان المنزل غارقا في الظلام ... مددت يدي نحو الجدار متحسسا المكابس
حتى أضأت المصباح ... و لحسن الحظ ، بل للعجب ، كان يعمل ... !
الإنارة سمحت لنا برؤية ذرات الغبار التي تغطي الأرضية الرخامية عند المدخل...
شددت ُ يدي اليسرى و معها شددت ُ صغيرتي نحو الداخل و أنا أقول :
" ادخلن ... "
رغد خطت خطوة نحو الداخل و أخذت تدور برأسها في المكان ...
و تشد ضغطها على يدي ، و على صدرها من فرط التأثر...
إن قضيت الوقت في وصف المنزل فإنني لن أنتهي ...
لكن ... و إن تجاهلت وصفي للمنزل و ذكرياته
فهل أجسر على تجاهل وصف تعبيرات رغد ؟؟
إنها وقفت على مقربة من الدرج ... و هي لا تزال ممسكة بيدي ، و قالت :