لم أستطع أن أمر من هنا مرور الكرام
أوقفت سيارتي عند الباب ، المكان الذي اعتدت أن أوقفها فيه.. و نظرت من حولي ...
شعرت باختناق شديد في صدري، و كأن الغبار و الرماد قد سدّت حويصلاته
و منعت جزيئات الهواء من الدخول...
مع ذلك، لم أتمالك منع نفسي من المضي قدما...
فتحت الباب، وقلت :
" سألقي نظرة"
و التفت إلى رغد.. كانت لا تزال تخفي وجهها خلف يديها...
قلت :
" رغد.. أتأتين ؟؟ "
أردتها أن تأتي معي.. شيء حي يتحرك معي في سكون ذلك الشبح الميت
أردت أن أشعر ببعض الحياة.. ببعض الأمان..بأن هناك من لا زال حيا معي ..
رغم موت من مات.. و فناء من فني...
أروى قالت :
" سآتي معك ! "
رغد بسرعة أبعدت يديها عن وجهها و فتحت الباب !
خالتي الأخرى أيضا تبعتنا... و سرنا نحن الأربعة نحو الداخل...
الأبواب كانت مفتوحة، كما تركناها أنا و دانة ليلة هروبنا ...
سرنا ندوس على الرماد، و نتنفس الغبار.. و رائحة الخراب و الوحشة...
تقرصنا الذكريات و تصفعنا المناظر المؤسفة، و تحني ظهورنا الحسرة على ما كان و ما لم يعد...
رغد أمسكت بيدي، و كلما سرنا خطوة شدت ضغطها علي..
و كلما رأت شيئا أغمضت عينيها بقوّة و عصرت الدموع المتجمعة في محجريها...
حتى إذا ما بلغنا الردهة المؤدية إلى غرفة والدي ّ
حررت يدي من بين أصابعها، و هرولت نحو الباب و فتحته باندفاع...
" أمي... أبي ... "
حينها فقط، أدركت كم كنت مجنونا حين سمحت للفضول بالتغلب علي ...
و وقفت عند المنزل...
اقتحمت رغد الغرفة و هي تهتف
" أمي .. أبي .. "
و انهارت على السرير ، تحضن الوسائد و تبكي بحرارة و مرارة ..
بكاء عاليا صدّع الحجر ... و أدمع الجدران.. و زلزل الأرض...
" أنا أنتظركما ! لماذا لا تعودان ؟ أي حج هذا الذي لا يعود الحجيج فيه من بيت الله !
.. الله ! يا الله .. أنت ترى بيتي الآن ! أنت رب البيت و أنا لا بيت لي...
و أنت رب الناس و أنا لا ناس لي ! أتاك جميع الآباء و الأمهات..
و أنا لا أب لي و لا أم ! يا رب.. لا أب لي و لا أم ! يتّمتني مرتين يا رب ..
مرتين يا رب .. مرتين أفقد فيهما أعظم ما أعطيتني إياه ..
بل أربع مرّات ! أمان و أبان ! أربع أيتام في بيت خرب محروق ! "
كيف احتمل أنا ..وليد .. كلاما كهذا من رغد ؟؟
انهرت باكيا معها بلا شعور... و أي شعور يبقى للمرء و هو يرى ما نراه...؟
حسبنا الله و نعم الوكيل ...
من وسادة إلى وسادة، و من زاوية إلى زاوية، و من شيء إلى شيء
أخذت صغيرتي تتنقل و هي تهتف
" أمي .. أبي "
تفتش حطام الخزائن، و تستخرج الخرق المحروقة المتبقية من ملابسهما
و تحضنها و تقبّلها و تصرخ .. و قلبي يصرخ معها .. و تتمزق، و قلبي يتمزّق معها ..
و تنهار و قلبي ينهار معها أيما انهيار...
" يكفي رغد.. بالله عليك، دعينا نرحل "
أبت رغد الحراك، بل زاد تشبثها حتى ببقايا الستائر.. و شباك النوافذ..
أروى و الخالة بكتا لبكاء رغد، و وقفتا في الخارج في حزن و أسف على ما حلّ ببيتنا.. و بوالدينا..
رغد ، أقبلت فجأة نحو الأدراج الموجودة أسفل المرآة..
و أخذت تفتح الواحدا تلو الآخر... و تستخرج أشياء أمي
ما تبقى منها و تضم ما تضم، و تقبّل ما تقبّل ، و تضع في حقيبتها ما تضع..
" هنا كانت أمي تجلس كل يوم تسرّح شعرها ! "
" وليد انظر ! هذا سوار أمي المفضل ! "
" وليد هل تعتقد أنها قد تغضب إن احتفظت به !؟"
" أريد أن آخذ هذا معي !، و هذا .. و هذا و هذا و هذا ! "
" وليد ..لا أريد أن أخرج من هنا ! ليتني كنت هنا و احترقت قبل رحيلهما "
و مرة أخرى أسمعها تدعو على نفسها بالموت.. هتفت متوسلا :