التفت إلى رغد غير مصدق بأن الشرطة قد غادرت بالفعل... دون أخي... كنت أريد أن أسمع منها تأكيدا للأمر حتى أصدقه... غير أني رأيتها فجأة تنحني على المقعد وتتنفس بقوة وتئن...
أعدت المسدس إلى جيبي وأسرعت إليها وانحنيت إلى جانبها بقلق شديد وقلت:
"رغد أأنت بخير؟؟"
فقال وهي تلتهم الهواء التهاما:
"سأختنق... أكاد أختنق"
وكان جسدها يرتعش من الذعر ووجها يسبح في بحيرة من العرق...
شددت على يديها وأنا أقول:
"أرجوك تشجعي... بسم الله عليك... تماسكي صغيرتي"
وإذا بيديها تطبقان على ذراعي ووجها يندفن في ثنايا كم قميصي وهي تصيح منهارة:
"أنا لا أتحمل هذا... سأموت من الخوف..."
حاولت أن أهدئها قليلا ثم نهضت واقفا وابتعدت فصرخت:
"إلى أين تذهب؟؟"
فأجبت:
"إلى سامر"
وهرولت مسرعا تتبعني نداءاتها:
"لا تتركني وحدي...!"
من بين كومة السجاد... حركت اللفافة التي تغلف شقيقي... فتحتها بسرعة واستخرجت أخي من جوفها... أمسكت بكتفيه... ثم جعلت أنفض التراب عن وجهه وشعره وأنا أخاطبه:
"نجونا يا عزيزي... لقد رحلوا"
نظر إلي سامر نظرة حزينة موجعة... فقلت:
"سامحني يا عزيزي... لم أكن أريد أن أفعل بك هذا... سامحني"
ثم طوقته بذراعي وجذبته إلى صدري وعانقته عناقا حميما...
بعد ذلك أخذته إلى داخل المطبخ وقدمت إليه الماء فشرب كمية كبيرة... لا تقل عن الكمية التي أفرغتها في جوفي بسرعة...
قلت بعدها:
"لم يعد البيت آمنا لك... سآخذك إلى مكان آخر حتى يحين موعد الرحيل"
جلس أخي على أحد المقاعد الموزعة على الطاولة, ووضع رأسه على الطاولة باستسلام وتأوه...
قلت وأنا أتحرك نحو الباب الداخلي للمطبخ:
"سأرى كيف يمكنني إخراجك الآن وإلى أين آخذك"
وقبل أن أخرج من المطبخ سمعته ينادي:
"وليد"
التفت إليه فرأيته ينظر إلي وقد علت قسمات وجهه شتى التعبيرات...
"لماذا... تفعل هذا لي؟؟"
سألني وعيناه تكاد تنزفان دمعا من فرط ما هو فيه... فقلت:
"كيف تسأل يا سامر؟؟ إنك أخي الوحيد... أنا ليس لي في الدنيا شقيق وقريب غيرك..."
فقال سامر:
"لكنني..."
ولم تسعفه الكلمات... فقلت:
"أنا... لن أرى شقيقي الوحيد... ما تبقى لي من أبوي... ومن الدنيا... يتعرض للخطر وأقف متفرجا... مهما كان حجم ما اقترفته... أنا لن أسمح لمخلوق بإيذائك يا سامر... أرجوك... دعني أنفذ خطتي... ثق بي..."
وذهبت مسرعا إلى غرفة المعيشة, حيث كنت قد تركت هاتفي المحمول...
اتصلت بأبي حسام, فأخبرني بأنه كان لا يزال يحوم على مقربة من المنزل, وأن الشرطة قد غادرت ولا شيء يثير الشبهات حول المنزل... فطلبت منه المجيء وفور وصوله أدخلته إلى المنزل فسألني:
"أين سامر؟؟"
فأخذته إلى المطبخ, حيث كان سامر يجلس, وكذلك كانت رغد...
الدهشة علت وجهيّ سامر ورغد لدى رؤية أبي حسام... والأخير توجه مباشرة نحو سامر وشدّ على كتفه وهو يقول:
"الحمد لله... انك لا تزال بخير"
سامر نظر إلي بحيرة وقلق, فقلت:
"إنه يعرف كل شيء... وهو هنا لمساعدتنا"
وأبو حسام للعلم يعمل في إحدى الدوائر العسكرية, عملا مكتبيا.
التفتُ إليه وقلت:
"سآخذ سامر إلى مكان آخر... أرجوك أبق مع رغد حتى أعود... ولا تفتح الباب لأي طارق... سأعود بأقصى سرعة"
"ماذا؟؟"
كان هذا صوت رغد تهتف بفزع وهي تهب واقفة وأمارات الخوف جاثمة على وجهها, ثم تقول:
"لن تتركني وحدي هنا"
فقلت:
"أبو حسام سيكون معك"
فهتفت:
"لن تتركني وحدي في هذا المكان... لا يمكنني البقاء هنا أكاد أموت ذعرا... أرجوك وليد خذني معك"
قلت محاولا طمأنتها وتهدئتها قدر الإمكان:
"يا رغد... المشوار الذي سنقطعه أكثر خطورة... أنت هنا بأمان أكثر... قد يداهمنا رجال الشرطة أو قد يحصل أي شيء في طريقنا, كيف تريدين مني أن أصطحبك؟"
تحدث أبو حسام موجها الخطاب لرغد:
-------------------------------------------------------------------
"لا وقت لنضيعه في الكلام, يجب أن نخرج سامر من هنا فورا"
ثم التفت إلي وقال:
"هيا يا وليد... عجّل..."
تبادلت النظرات مع أخي وأبي حسام ثم عدت إلى رغد... وحال منظرها الفظيع دون نطقي بأي تعليق. فقال أبو حسام مستعجلا:
"الآن يا وليد"
مسحت قطيرات العرق المتجمعة على وجهي وعنقي ثم قلت موجها خطابي إلى رغد:
"ابقي لحين عودتي... لن أتأخر"
أغمضت رغد عينيها ذعرا... لكنني لم أستطع غير المضي قدما...
التفتُ إلى شقيقي الجالس على المقعد وقلت:
"هيا بنا... توكلنا على الله"
لم يتحرك سامر بادئ ذي بدء... ظهر هادئا مستسلما يائسا... وكأن الأمر لا يعنيه أو أنه فاقد الأمل في النجاة...
نظر أبو حسام إلى سامر وقال محثا إياه على النهوض:
"هيا يا بني"
وهو يشد على كتفيه. وقف سامر وعيناه تدوران فيما بيننا وأعيننا معلقة عليه... ثم نطق أخيرا:
"إلى أين؟؟"
يسأل عن المخبأ الذي خططت لنقله إليه, فأجبت:
"مصنع والدي"
حملق الجميع بي لبرهة... تعلوهم الدهشة.
مصنع والدي, دمر أثناء غزو العدو على المدينة قبل سنوات... وهو الآن مهجور وخرب ولا تتنازل حتى وحوش البرية للإقامة فيه. يقع المصنع عند أطراف المدينة في مكان ناء... يستغرق الوصول إليها زمنا... خصوصا وأن الشوارع بقيت على حالها مدمرة ومتقطعة...
أخيرا التفت أبو حسام إلى سامر وقال:
"توكلا على الله"
وسار أخي وهو يقترب مني... حيث كنت الأقرب إلى الباب. وعندما صار أمامي... مددت يدي إلى ذراعه وقلت:
"سامر... ثق بي... اعتمد علي... أعدك بأن تغادر البلد سالما بإذن الله... لقد رتبت لكل شيء... النقود تسهل كل صعب..."
نظر إلي أخي والهم يعشش على عينيه... نظرة هزتني من الأعماق... فشددت على ذرعه بقوة وقلت:
"أرجوك... تشجع... وعدني بأنك لن تضيع جهودي عبثا... عدني بأن تلتزم بما أقوله لك... ولا تحاول شيئا آخر... أرجوك عدني"
أحس أخي الرجاء الشديد في نبرة صوتي, وأخيرا نطق:
"أعدك... وليد"
فابتسمت مشجعا... وشددت على ذراعه أكثر... ثم استخرجت من أحد جيوبي السلاح الذي كنت أخفيه...
قدمته نحو أخي, وهو ينظر إلي مندهشا... فقلت:
"استخدمه إذا اضطررت..."
أخذ سامر مسدسه من يدي... وهو يحملق بي غير مصدق... ثم خبأه في أحد جيوبه, ثم عانقني عناقا أخويا حميما...
حملنا معنا هاتفي وهاتف سامر, والذي كنت قد احتفظت به عندي, وقبل المغادرة التفت إلى رغد... والعم أبي حسام, وقلت:
"أمانتك لحين عودتي..."
وأشحت بوجهي قبل أن يحدث منظر رغد في قلبي ثقبا جديدا...
أخيرا دخلنا أحد المباني... المبنى الذي كان يحوي مقصفا للعمال وغرفة استراحة... كان المبنى الأقل تضررا والذي لا يزال سقفه يقف على جدرانه.
المكان كان موحشا جدا... لا يثير في النفس إلا الذعر...
لم تكن هناك أي إنارة عدا بصيص بسيط يتسلل عبر نافذة صغيرة قرب السقف...
"سيكون هذا جيدا"
قلت ذلك وأنا أنفض الغبار والأتربة عن أريكة مجاورة وأدعو أخي للجلوس, فرد:
"ما هو الجيد؟؟"
وقد غمره الاستياء والنفور الشديدين من المكان... بقي أخي واقفا ينظر إلى ما حوله بازدراء... جلت ببصري في الغرفة ولم أستطع إقناع نفسي بغير شعور أخي... الازدراء...
قلت مشجعا:
"لبضع ساعات... تُحتمل"
وأشرت إليه أن يجلس, لكنه لم يفعل...
أخي منذ صغره, اعتاد العيش في النعيم. منزلنا الكبير في الجنوب... ومنزلنا الراقي في الشمال... وشقته الفاخرة... أذكر أنه عندما زارني في المزرعة ورأى الغرفة المتواضعة التي كنت أقيم فيها والمنزل البسيط, شعر بالنفور والازدراء...
قلت:
"هذا لا شيء... مقارنة بالزنزانة"
وأنا أتذكر الزنزانة الفظيعة التي أضعت بين جدرانها القذرة ثمان سنوات من عمري...
نظر سامر إلي باستسلام, ثم جلس على الأريكة كارها. لو لم يكن لدي ما أنجزه للضرورة القصوى, لكنت بقيت برفقته... كيف لي أن أترك أخي في مكان مهجور ومرعب وقذر كهذا؟؟
قلت وأنا أستعد للمغادرة:
"سأنهي ما لدي وأعود إليك..."
وأضفت:
"كن حذرا... ابق عينيك وأذنيك يقظتين و هاتفني إن حصل شيء على الفور"
أرسل أخي إلي نظرة قرأت فيها توسلا... بألا أغيب عنه... فرددت على رسالته بنظرة تقول: (انتظرني...)
وهكذا, غادرت مصنع أبي المهجور... تاركا في قلبه شقيقي الوحيد... وحيدا...
اتصلت بعد ذلك بالمنزل أطمئن على رغد وأبي حسام وأطمئنها علينا... وتوجهت بعدها لاستلام الوثائق الضرورية التي تلزمنا للسفر... وأنجزت مهاما أخرى...
لن تصدقوا ما اضطررت لفعله من أجل إنقاذ أخي... لم أكن لأتصور نفسي سألجأ إلى هذا... يوما من الأيام...
المفضلات