راقبته فرأيت صدره يلهث بأنفاس قوية تتحرك عبر فمه...
يكاد بخارها يغشي زجاج السيارة ... أما أنفه فقد كان لا يزال ينزف...
و قطرات الدم تقطر من أسفل فكّه لتتلقاها ملابسه و تشربها بشراهة...
منظر أفزعني حد الموت...
هتفت بما كان قد تبقى لحبالي الصوتية من قدرة على النطق :
" وليد... أنفك... ينزف ... "
لم يجب...
" وليد... "
و لم يرد
" وليد... رد علي ... أرجوك "
و أحسست بيده تضغط علي قليلا... ثم تسترخي...
كانت دافئة جدا... و رطبة...
تناولت بعض المناديل و قرّبتها من وجهه... و توقفت برهة مترددة ...
أنظر إلى مجرى الدماء ينسكب من أنفه... إلى شفتيه المفتوحتين...
إلى ذقنه... تكاد قطرات منها تتسلل إلى فمه ممتزجة مع الأنفاس الساخنة...
دون أن يشعر بها أو ينتبه إليها...
قربت المناديل من سيل الدم و مسحته بخفة...
و وليد لم يشعر بشيء... و لم يفعل أي شيء...
لم أعد أسمع غير صوت الرياح الماطرة
تصفع زجاج السيارة مثيرة في نفسي رعبا منقطع النظير...
الغيوم السوداء الكثيفة تلبدت في السماء و حجبت أشعة الشمس...
قطرات المطر تزاحمت على نوافذ السيارة...
و أوهمتني بالشعور بالغرق حتى أصبحت التقط أنفاسي التقاطا...
و أعصر يدي ببعضهما عصرا...
أخذت أراقب كل شيء من حولي... أنفاس وليد القوية...
أرواق الأشجار المتراقصة في مهب الريح... سيول المطر المنزلقة على النوافذ...
و عقارب ساعة يدي تدور ببطء و سكون...
و السيارات المعدودة التي مرّت بطريقنا الموحش و ربّما لسوء الطقس تجاهلتنا...
شعرت برجفة تسري في جسدي...
اقتربت أكثر نحو وليد و حركت يديّ و أمسكت بذراعه ناشدة الأمان... و جفلت لحرارتها...
لم يحس وليد بي... لقد كان غارقا في النوم ...
تأملت وجهه... كان شاحبا كالعشب الجاف... جليا عليه المرض...
عيناه وارمتان و تحيط بهما هالتان من السواد...
و بعض زخات العرق تبرق على جبينه العريض...
و آثار الدم الممسوح تظهر على أنفه المعقوف و ذقنه الملتحي...
و الهواء الساخن يتدفق من فمه مندفعا بقوة...
وليد قلبي... مريض...
نعم مريض !
و مريض جدا...
آنذاك... تمنيت... و ليت الأماني تتحقق فور تمنيها...
تمنيت لو كان باستطاعتي... أن أمسح على رأسه أو أربت على كتفيه...
تمنيت... لو أستطيع أن أبلسم جرحه الدامي أو أنشف جبينه المتعرق ...
تمنّيت ... لو كنت هواء ً يمتزج بأنفاسه و يقتحم صدره... و يلامس دفأه ...
تمنيت لو أعود طفلة و أرتمي بحضه... و أبكي على صدره...
لطالما كان يعتني بي حين أمرض... لطالما عالج جروحي ... و سكّن آلامي... و هدّأ روعي...
لطالما ربت على كتفي و مسح دموعي... و رسم الابتسامة بين خدي ّ...
لطالما حمل همومي الصغيرة... و حملني ضئيلة على ذراعيه...
تشبثت بذراعه بلا شعور مني.. و لا شعور منه...
إنْ حنينا ً إلى الماضي... أو خوفا ً من الحاضر... أو أملا ً في الغد...
تعلقت بتلك الذراع تعلق الغريق بطوق النجاة...
و كأنها آخر ما تبقّى لي... من وليد قلبي...
بعد قليل... رأيت سيارة تتوقف أمامنا ... فزعت ...
اشتد قبضي على ذراع وليد ... هززتها بقوة و هتفت بانفعال :
" وليد انهض "
لم يفق ... تسارعت ضربات قلبي و اصطدمت ببعضها البعض...
غرست أظافري في ذراع وليد و أنا أرى باب تلك السيارة ينفتح و صرخت بقوّة :
" وليد ... انهض أرجوك... أرجوك "
أحس وليد بشيء يعصر ذراعه... و أصدر صوت أنين مخنوق ...
ثم بدأ يتحرك و أخيرا فتح عينيه...
المفضلات