الآن رغد راحت تنظر إلى المسافة التي تفصل بيننا، بضع خطوات تتجاوز المتر..
ثم تنظر إلي...
نظرت أنا إلى حيث نظرت، ثم خطوت خطوتين للأمام، و قلت :
" متر ! أليس كذلك ؟؟ "
هنا .. انطلقت ضحكة غير متوقعة من حنجرة رغد..
ضحكة صغيرة كصغر حجمها و حجم حنجرتها..
و قصيرة كقصر المسافة التي بيننا هذه اللحظة... و مبهجة كبهجة العيد !
لم أستطع منع نفسي من الابتسام.. و هل هناك أجمل من ابتسامة
أو ضحكة عفوية تشق طريقها بين الدموع و الهموم؟؟
لما رأيت منها هذا التجاوب، فرحت كثيرا.. فضحكة رغد ليست بالأمر السهل..
إنها أعجوبة حصلت في زمن المرض و المآسي...
قلت :
" بما أن سامر سيبدأ العمل و سينشغل ثمان ساعات من النهار خارج الشقة،
و أنا لابد لي من العودة لعملي، فأنا سآخذك معي.. فهل تقبلين ؟؟ "
قالت :
" و سامر؟ يبقى وحيدا ؟ "
قلت :
" سنأتي أسبوعيا لزيارته أو يأتينا هو.. ربما تتغير ظروفنا فيما بعد.. و نستقر جميعا في مكان واحد.. ما رأيك ؟ "
نظرت إلى الأرض، ثم قالت :
" حسنا "
أثلج صدري، ارتخت عضلاتي و ارتاح قلبي من توتره.. قلت :
" إذن اجمعي أشياءك الآن، سنذهب عصرا "
وقفت رغد مباشرة، و بدأت بجمع قصاصات الورقة التي مزقتها قبل قليل..
أخذت تنظر إليها، و شردت...
قلت مداعبا :
" اطمئني يا رغد.. سترين..أي نوع من الآباء و الأمهات سأكون ! "
ابتسمت رغد، و ألقت القصاصات في سلة المهملات...
~ ~ ~ ~ ~
لم يكن لدي الكثير من الأشياء، لذا لم احتج أكثر من حقيبة صغيرة جمعت حاجياتي فيها
و وضعتها قرب الباب..
وليد ذهب إلى الحلاق، و حينما يعود .. سنغادر..
سوف لن أتحدث عن فاجعة موت والدي ّ لأنني لا أريد لدموعي و دموعكم أن تنهمر..
فقد اكتفيت..تشبّعت للحد الذي لم تعد فيه الدموع تحمل أي معنى...
لقد كنت أنا من أصرّ عليهما بالحضور بأية وسيلة.. فقد كنت في حالة سيئة كما تعلمون..
و ربما هذا ما دفعهما لسلك الطريق البري الخطر..
أنا الآن فتاة يتيمة مرتين.. بلا ولي و لا أهل، غير خطيب لن أتزوجه يوما.. و ابن عم لن يتزوجني يوما..
لكنه لن يتخلى عني..
أجهل طبيعة الحياة التي سأعيشها من الآن فصاعدا.. ألا أنني لا أملك من الأمر شيئا
و إذا ما كتب لي العودة إلى المدينة الصناعية ذات يوم، فلسوف استقر في بيت خالتي..
حتى يومنا هذا، و الحظر الشديد مستمر على المدينة الصناعية
و مجموعة من المدن التي تعرضت أو لا تزال تتعرض للقصف و التدمير من قبل العدو...
أما هذه المدنية، و كذلك المدينة الزراعية، فهما بعيدتان عن دائرة الحرب...
ارتديت عباءتي، مستعدة للخروج .. و لمحت سامر يقبل نحوي..
وقفت أنظر إليه و هو ينظر إلي.. و كانت النظرات أبلغ من الكلمات..
قال :
" سأفتقدك"
قلت :
المفضلات