--------
و هطلتْ القطرة الأولى...
من سحابة الدموع التي سرعان ما تكثـّفتْ بين جفنيها...
إنها ليستْ باللحظة المناسبة لأي شرح أو تفسير...
أو علة أو تبرير... أو رفض أو اعتراض !
قلتُ مستسلما مشتتا مأخوذا بأهوال ما يجري من حولي:
" لا... لا ليس كذلك ... "
شيئا فشيئا انعكس اتجاه قوس شفتيها...
و ارتسمتْ بينهما ابتسامة مترددة واهية...
و تسللتْ من بينهما الدمعة الوحيدة مسافرة عبر فيها إلى مثواها الأخير...
نحو فمي ساقتْ رغد قطعة البيتزا ثانيةً...
و بين أسناني قطعتُ جزءا منها مضغتُه دون أن أحسّ له طعما و لا رائحة...
اتسعتْ الابتسامة على وجه الصغيرة و سألتني:
" لذيذة ؟ "
قلتُ بسرعة :
" نعم ... "
ابتسمتْ رغد برضا... و كأنها حققتْ إنجازا عظيما...
ثم واصلتْ التهام البيتزا و طلبتْ مني مشاركتها ففعلتُ مستسلما...
و أنا في حيرة ما مثلها حيرة من أمر هذه الصغيرة...
كم بدا القرص كبيرا... لا ينتهي...
كنتُ أراقب كل حركة تصدر عن صغيرتي...
متشككا في أنها قد استردتْ إدراكها كاملا...
الرعشة في يديها اختفتْ... الارتخاء على وجهها بان...
الاحمرار على وجنتيها تفاقم... و الأنفاس من أنفها انتظمتْ...
و أخيرا فرغتْ العلبة... لقد التهمنا البيتزا عن آخرها لكن...
لم أشعر بأنني أكلتُ شيئا...
في هذه اللحظة أقبلتْ أروى و وقفت عند الباب مخاطبة إياي:
" إنه هاتف مكتبك يا وليد... رن مرارا..."
نقلت ُ بصري بين أروى و رغد...
الفتاتان حدقتا ببعضهما البعض قليلا...
ثم مدتْ رغد يديها و أمسكتْ بذراعي كأنها تطلب الأمان...
كان الخوف جليا على وجهها ما أثار فوق جنوني الحالي... ألف جنون و جنون...
" رغد !! "
رغد كانت تنظر إلى أروى مذعورة... لا أعرف ما حصل بينهما...
قلتُ مخاطبا أروى :
" انصرفي الآن يا أروى رجاء ً "
رمقتني أروى بنظرة استهجان قوية... ثم غادرتْ...
التفتُ إلى الصغيرة و سألتُها و القلق يكاد يقتلني :
" ماذا حل بكِ يا رغد ؟ أجيبيني ؟؟ هل فعلتْ بك ِ أروى شيئا ؟؟ "
رغد أطلقتْ كلماتها المبعثرة بانفعال ممزوج بالذعر:
" لا أريد أن أراها... أبعدها عني... أنا أكرهها... ألا تفهم ذلك؟؟... أبعدها عني...أرجوك "
لن يفلح أي وصف لإيصال شعوري آنذاك إليكم... مهما كان دقيقا
أخذتُ أطبطب عليها أحاول تهدئتها و أنا المحتاج لمن يهدّئني....
" حسنا رغد... يكفي...أرجوك اهدئي...
لا تضطربي هكذا...بسم الله الرحمن الرحيم..."
بعد أن هدأتْ رغد و استقرتْ حالتها العجيبة تلك...
لم أجرؤ على سؤالها عن أي شيء...
عرضتُ عليها أن آخذها إلى الطبيب، لكنها رفضتْ تماما...
فما كان منّي إلا أن طلبتُ منها أن تسترخي في فراشها لبعض الوقت
و سرعان ما اضطجعتْ هي و غطّتْ وجهها بالبطانية...
ليس لشيء إلا.. لأنها أرادتْ أن تبكي بعيدا عن مرآي...
كنتُ أسمع صوت البكاء المكتوم...
و لو دفنته يا رغد تحت ألف طبقة من الجبال... كنتُ سأسمعه !
لكنني لم أشأ أن أحرجها... و أردتُ التسلل خارجا من الغرفة...
وقفت ُ و أنا أزيح المقعد بعيدا عنها بهدوء... و سرتُ بخفة نحو الباب...
فيما أنا على وشك الخروج إذا بي أسمعها تقول من تحت البطانية:
" وليد...أرجوك...لا تخبرها... عما حصل في الماضي... أرجوك "
تسمرتُ في موضعي فجأة إثر سماعي لها...
استدرتُ نحوها فرأيتها لا تزال مختبئة تحت البطانية... هروبا من مرآي...
تابعتْ :
" لن احتمل نظرات السخرية... أو الشفقة من عينيها... أرجوك وليد.."
بقيتُ واقفا كشجرة قديمة فقدتْ كل أوراقها الصفراء الجافة في مهب رياح الخريف...
المفضلات