" أنا بخير... سبق و أن حجزت التذاكر و لا داعي لتأجيل الأمر... "
صمتت رغد فسألتها :
" هل هذا ... سيريحك ؟ "
انتقلت أنظار رغد من عيني إلى الأرض... و لم تجب...
كنت أعرف بأنها لا ترغب في السفر بل في العودة إلى خالتها...
خطوت خطوات نحوها حتى صرت جوارها تماما...
و أمكنني رؤية الرسوم التي كانت ترسمها على الورقة...
كان رسما لفتاة صغيرة تحضن ذراعا بشرية كبيرة...
تخرج من حوت مغمض العينين مفتوح الفكين تقطر الدماء من أنيابه !!
ما المقصود من هذا الرسم الغريب ؟؟!
ناديتها :
" رغد "
فرفعت بصرها إلي ّ ...
" عندما نذهب إلى المدينة الساحلية... فسألحقك بالجامعة ... "
ظلت رغد تحدّق بي... بشيء من التشكك أو المفاجأة
قلت مؤكدا :
" لقد رتّبت للأمر...و دبّرت لك مقعدا في كلية الفنون...
لتتابعي دراستك...ألم يكن هذا حلمك ؟"
قالت بتردد :
" أحقا ؟ "
قلت :
" نعم يا رغد... أنت موهوبة و المستقبل المشرق ينتظرك ... "
رأيت تباشير ابتسامة تتسلل إلى وجهها ... إذن...
فقد استحسنت الفكرة... الحمد لله !
" و في وقت الإجازات سآخذك إلى خالتك... أعدك بذلك ...
صدّقيني يا رغد ... أنا أعمل لمصلحتك ... و لم يكن قصدي إجبارك على شيء...
و إن فعلت... أو تصرّفت معك ِ بصرامة... فأرجوك... سامحيني "
عادت رغد ببصرها نحو الأرض ...
" هل تسامحيني يا رغد ؟ "
رغد ابتسمت و أومأت إيجابا فتنفّست الصعداء عبر فمي بارتياح...
تصادم الهواء البارد مع حلقي المتهيّج فأثار نوبة خفيفة من السعال
جعلت رغد ترفع رأسها بقلق و تمسك بذراعي تلقائيا و تهتف :
" وليد ... "
انتهت نوبة السعال ... و ركزت نظري نحو رغد...
و رأيتها تشد ذراعي بقوّة ... تكاد تحضنها !
فيما تتجلى تعبيرات القلق و الخوف على قسمات وجهها...
ابتسمت ! لا بل تحوّل سعالي إلى قهقهة !
أطلقت ضحكة قوية و أنا أقول :
" لا تخافي يا صغيرتي ... حتى الحيتان تمرض أحيانا ! "
تحسنت صحتي كثيرا و سافرنا جوا إلى العاصمة
و من ثم إلى المدينة الساحلية أنا و رغد و أروى و الخالة ليندا.
أقبلت على العمل بجد و شغلت معظم أوقاتي فيه
و قسّمت الباقي بين شؤون المنزل، و أروى و رغد
و آه من هاتين الفتاتين !
إنهما تغاران من بعضهما البعض كثيرا
و باءت كل محاولاتي للتأليف فيما بينهما
و تقريب قلبيهما لبعضهما البعض بالفشل و الخذلان...
المشاحنات تضاءلت بعض الشيء مع بداية الموسم الدراسي...
إذ أن رغد أصبحت تغيب عن المنزل فترات طويلة...
الأمر كان صعبا في البداية إلا أن رغد تأقلمت مع زميلاتها
و من محاسن الصدف
أن كانت إحدى بنات السيد أسامة – المشرف السابق على إدارة مصنع أروى-
زميلة لها و قد تصاحبت الفتاتان و توطدت العلاقة بينهما...
تماما كما توطّدت فيما بيني و بين السيّد أسامه عبر الشهور...
و وافق مبدئيا على عرضي بالعودة إلى المصنع...
و الدراسة شغلت فراغ رغد السابق و نظّمت حياتها
و زادت من ثقتها بنفسها و بأهميتها
و مكانتها في هذا الكون بعد أن فقدت كل ذلك بموت والدي ّ رحمهما الله...
و لأن الله أنعم علي بالكثير و له الحمد و الشكر دائما و أبدا...
فقد أغدقت العطاء على صغيرتي
و عيّشتها حياة مرفهة كالتي كانت تعيشها في كنف والديّ أو أفضل بقليل...
المفضلات