وهذا مقال في نفس الشبكة ردا على الكاتب:
أخانا النمر: الشيخ المهاجر أخطأ وأنت أصبت!!
بادئ ذي بدء تحية سلام ومحبة لأخينا منير النمر، ولدي مداخلة متواضعة على ماطرحه في مقاله بعنوان «الشيخ المهاجر: إيليا أبو ماضي حطباً لجهنم»، ولست أدري تدل على جهله.
فالإطار العام الذي انتهجه كاتبنا الكريم عند تناوله لهذا الموضوع يعد منقوصاً من حيث المحتوى والصياغة، فالموضوع رغم قصره إلا أنه احتوى نقاط تأخذ تشعبات واسعة سواء من حيث المعنى أو الفهم الديني، لأن كل نقطة من نقاط المقال والتي أثارها الكاتب الكريم تحتاج إلى استدلال وتحليل موضوعي مفصل لايسعني المجال لبحثه بسبب كثرة الأفكار المطروحة والمترابطة بعضها البعض، ولكني سأحاول الإشارة لها قدر المستطاع.
انتقد وأجعل الاحترام سمة الاختلاف
لعل من أولويات الكتابة طرح المادة بشكل واعٍ وموزون تنم عن أدبيات المثقف الواعي فلا يخفى على كاتبنا الكريم أن لصياغة الكلمات سلوك وفنون تصب في جانب الانتقاد البناء الذي نثني عليه ونشد على أيدي مثقفينا وكتابنا على سلكه وتبنيه، لما له من مردود إيجابي في إثراء ثقافة الفكر والمنطق للملقين والمتلقين على حد سواء.
ولعل من ركائز ثقافة الاختلاف احترام وجهات النظر وانتقادها بأبجديات وأسس منطقية وعقلائية وهو ما أفتقده مقال أخينا الكريم - مع احترامي الشديد لشخصه، فإذا كان الشيخ المهاجر استخدم فكراً متطرفاً - من وجهة نظره، فكان الأولى منه في مقام التصحيح والانتقاد البناء أن يصيغ كلمات تنم عن ثقافته المعتدلة والرزينة والتي ينادي ويحارب من أجلها، وأن يكون الطرح والانتقاد مبني على استقراء صحيح لفكر مقابل، لاسيما أن الموضوع يحوي أكثر فكرة، ويتناول أطروحة شاعر بأدبياته الشعرية وتفنيدها في إطار ديني له رواده ومتخصصيه.
وليس معنى ذلك أنه ليس من حقك كإنسان مثقف أن تبدي رأيك، فلك الحق بشرط إلمامك بالموضوع من جميع حيثياته ونواحيه، وأن لا تسعى لتوظيف المادة في الاتجاه الذي تريده وتتناوله بتحليلاتك الشخصية، لاسيما أن الكاتب نقل معنى لكلام الشيخ المهاجر ووجهه بالاتجاه الذي ارتآه فكان الانتقاد - إن صح التعبير عنه منصباً على الشخصية، ليخرجنا من دائرة الانتقاد إلى دائرة الانتقاص، وهذا أسلوب تهجمي وليس أسلوب تحليلي انتقادي متزن، لماتخلله من ألفاظ وأحكام أطلقها جزافاً على الشيخ المهاجر، فليس من المنطق أن تصدر حكماً وتعممه بهذه الكيفية.
ولعل أول حكم أصدره كاتبنا العزيز على الشيخ عبدالحميد المهاجر في أول كلمة في مقاله عندما قال: لم يكن بمفاجئة، وتنم هذه الكلمة ربما عن فكرة مسبقة حملها الكاتب في نفسه تجاه الشخصية ذاتها وليست تجاه الفكرة التي تناولها الشيخ المهاجر مع «أبو ماضي»، وربما يعود ذلك لميول شخصية وفكرية معينة كانت تتحين الفرصة لخروجها من فمه، فكان كلام الشيخ المهاجر في إيليا أبو ماضي الفرصة السانحة لذلك.
وبالمجمل هكذا طرح ليس منسجماً مع أدبيات النقاش والاختلاف، فالاختلاف منهج مسلم به بين البشر منذ بدء الخليقة إذا ظل في إطار الاختلاف وليس موضع الاستنقاص والإقصاء، وهذا الخطأ الفادح الذي وقع فيه الكاتب عندما قال: لاتنفك عن إطار فكري كامل تسيء للحسين
، ثم اصدر حكمه على الشيخ بأنه متطرف فكري. ولا أدري؟ هل يدرك أبعاد وماتحتويه هذه الكلمة من معنى؟ وهل تقصد تطرفاً بعينه أو بمجمله؟. فإذا أخطأ الشيخ - من وجهة نظرك الشخصية في صدور حكمه على «أبو ماضي» فماذا تسمي حكمك الصادر عليه بنعته بالمتطرف الفكري؟ وماذا أبقيت من نعوت وألقاب للمتطرفين في العالم؟!!
وهنا نقطة يجب الالتفات إليها جيداً فالشيخ المهاجر بحكم مؤهلاته العلمية والدينية والتي يراها الكثيرين فيه تناول قضية «أبو ماضي» وأبدى رأيه فيها وفق معطيات واستدلالات دينية معينة - بغض النظر عن صحة رأيه أو خطأه، بالمقابل أتسأل ماهي مؤهلاتك أخي الكريم التي تؤهلك لتصدر حكماً بهذه الحدية على الشيخ المهاجر وأنت لست مخولاً أو متخصصاً في هذا المجال ؟!!
وإذا كنت تؤمن بمفهوم الاعتدال وهو منهج الإسلام الحنيف فكان الأجدر بك اتخاذ موقف الإنصاف كأساس مع منْ نختلف معه بالرأي، خاصة مع تعاطيك مع شخصية معطاءة بهذه المكانة والحضور والتي فرضت وجودها على الساحة.
ومن منطلق الأساس الذي تنادي به لا يمكنك أن تقصي فكراً بأكمله لأجل نظرية أو رأياً استقرأته من محاضرة منبرية، فإقصاء فكر وثقافة لمجرد رأي قابل للنقاش والاختلاف لهو الإجحاف الممقوت بعينه.
وكان من المفترض وفق أمانتك الكتابية والدينية أن تقف موقف المنصف والمحايد، خاصة إذا كانت أخلاقك الرفيعة التي أحيي فيك رفعتها بانحنائك لجنازة يهودي كرامة لإنسانيته، فكان من باب أولى أن تكون هذه الأخلاق منسجمة مع طرحك وتعاطيك مع رجل مسلم كالشيخ المهاجر بغض النظر عن توجهه ومكانته واختلافك معه.
و أتفق مع الأصوات التي ترى أن طرح الموضوع أمام الرأي العام يحتاج إلى كثير من التوضيح والاستدلال، ولعل الشيخ الهاجر في جعبته الكثير من الاستدلالات والأدلة والتي لم يوفق لطرحها لسبب ما، كي تزال الشبهة والضبابية وتكون الصورة مكتملة أمام الجميع، ولعلها كلمة تُذكر الكاتب الكريم أننا نسعى للإنصاف وليس الإقصاء.
خط التسامح موازي لطريق الثبات
لعل من المبادئ والقيم النبيلة التي نادى بها كاتبنا الكريم أنه تعلم من الحسين
لغة التسامح والقيم الإنسانية، فأين هذا اللغة التي نسبت نفسك إليها؟ وكيف وظفتها في مقالك؟
ويجب أن تعي أن مفهوم التسامح والقيم مفهوم ونهج راقي نادى به أهل البيت
نقف إجلالاً واحتراماً له، لما يحوي من مفاهيم واسعة لا يسعنا المجال لطرحها، وهو نهج نؤكد عليه ونسعى لترسيخه في تعاملاتنا، والذي من أُسسه الموازنة بين مفهوم التسامح والثابت على القيم، وهذه موازنة عجيبة تحتاج لشرح وتمعن، فقراءة دفة دون أخرى يجعل المعادلة مغلوطة ترجح إحداها على الأخرى، فلابد على قارئها أن يقرأ طرفيها بشكل متوازٍ ومتساوٍ، ونسعى دائماً أن نوقف طرفيها عند مؤشر التوازي والتساوي وليس عند مؤشر الترجيح والتضارب.
نقطة المحك
تعد أصول العقيدة في الديانات السماوية من أهم ركائز ها، فطرح العقائد وأصولها بدون علم ودراية وتمعن وتقصي يمكن أن يضع أي كاتب في محك خطير، بالرغم أننا نتفق في حق التعددية الفكرية للمجتمعات والأفراد، وهو باب مفتوح يخضع لضوابط إنسانية راقية تحتم علينا احترام الآراء والأفكار خاصة إذا تناولت هذه الأفكار مبادئ ورموز مرموقة تثير الحمية لدى معتنقيها ومؤيديها، خاصة إذا طُرحت وقُرئت بشكل سطحي ومنقوص.
فماذا يكون الحال عندما تكون الفكرة منصبة في لب الديانات السماوية المرتكز على الاعتراف بوجود الله عز وجل؟ وهذا الفيصل الأول والأخير في المقال المذكور، والذي أفرز إشكالية في قراءة ماهية النص الموجود في قصيدة الطلاسم للأبي ماضي.
واتفق مع الآراء التي تقول: إن لقراءة النصوص والاقتباس منها أبعاداً ومنحيات متعددة، يفهمه كل حسب توجهه واستدلالاته، ولذلك كانت هذه نقطة المحور الرئيس في ماهية الاختلاف على قصيدة أبو ماضي التي أوجدت تساؤل مريب قرأه البعض بمفهوم الإلحاد، وكانت ردة البعض عنيفة تجاهه، لأنه جاء بمفهوم خارج عن الإطار الديني المتفق عليه بين الديانات السماوية -بما فيها المسيحية، والتي تعترف بأجمعها بوجود الله عز وجل، ولكن برؤى ومفاهيم مختلفة.
والمعروف أن المدرسة التي ينتمي لها الشيخ المهاجر هي المدرسة الإمامية وهي من أكثر المدارس الدينية الإسلامية التي تحترم جميع الديانات السماوية، فبنظرة فاحصة في كتبهم الفقهية والعقدية تضعك على شواهد تؤكد في أغلبها صحة مانقوله، ونجدها من أوائل التيارات المنادية بالسلام واحترام الأديان والمعتقدات، وحتى في عصرنا الحالي فبالرغم من الشحن المناوئ لها، إلا أن أغلب علمائها ومفكريها لا يزالوا يحملون هذا المبدأ النبيل ويتبنونه في كل محفل من محافلهم.
وفي نفس الوقت وليس خافياً على أحد أن الشيخ عبدالحميد الهاجر ينتمي لتيار مرجعي كان رائدها ينادي بنظرية ألاَّ عنف في الإسلام، وهي نظرية تشجب جميع أنواع العنف بمافيها العنف الفكر ي الذي ينبذ مفهوم العداء والتناحر بجميع صوره وأشكاله.
الشيخ المهاجر لم يكن الأول والأخير
لمن يكن الشيخ المهاجر أول المنتقدين للرؤية التي حملها أبو ماضي في قصيدته، ولا أدري هل يعلم الكاتب الكريم أن هنالك علماء ومثقفين أكثر وأقل ثقلاً ومكانةً من الشيخ المهاجر من جميع التيارات والفئات الإسلامية كأمثال السيد نعمة الله الجزائري والسيد علي النقي وغيرهما، ارتأوا في قصيدة الطلاسم مايشم منها فكراً إلحادياً نادى به الشاعر أبو ماضي؟ لأنه مس -من وجهة نظرهم قاعدة التوحيد والعبودية لله عز وجل، وأنها نقطة لايمكن المجاملة والتغاضي عنها لأنها تمس أصل الديانات السماوية وهي الاعتراف بوجود الله عز وجل.
وهي رؤية تتوافق مع طرح الشيخ عبدالحميد المهاجر وإذا أراد الكاتب الكريم فسأضع بين يديه تلك الكتابات ليرجع لها وليراها بأم عينه، وأنقل له بعض الشواهد الحية وهو رد الدكتور ربيع سعيد عبدالحليم على الشاعر أبو ماضي وهو دكتور مصري بقصيدة أسماها فك الطلاسم ونورد نص منها:
ليس سراً ذا خفاءٍ أمرُ ذيّاك الوجودْ
كل ما في الكون إبداعٌ إلى الله يقودْ
كائنات البر والبحر على الخلق شهود
ليت شعري كيف ضلّ القوم رشدا!
ليت شعري!
من هنا أقف متسائلاً لماذا طرح كاتبنا هذا الموضوع في هذا الوقت بالتحديد، وبهذه الكيفية وبهذه القراءة الممقوتة؟ هل لينال من طائفة أو من شخص ما؟ وماهو المردود الذي سيجنيه من كل ذلك؟ ونحن في وقت نسعى فيه إلى لملمة الجراح وتوحيد الصفوف ودرئ المخاطر، لكننا نجد بعضنا يبحث عن صيد ثمين لفريسته.
كلمة أخيرة أتذكر فيها مقولة مفكر يشجب خوض الإنسان في مجال غير اختصاصه بقوله: هل يمكن للخباز أن يصنع من الحديد بدل العجين خبزاً؟
وكان حرياً على من أدلى بدلوه في بئرٍ أن يعرف ماذا يريد أن يغترف منه ماء أم حجر.
المفضلات