خصائص المنهج:
إن المتتبّع لأصول المنهج السلوكي، عند أهل البيت، كما حاولنا استكشافه يلحظ امتيازه عن الاتجاهات الوضعية في علم النفس وعلوم التربية، وعن نظريات هذه المدارس حول السلوك وبناء الشخصّية. وأهم خصوصيات منهج أهل البيت هي:
1ـ الانطلاق من الداخل إلى الخارج: على خلاف العديد من النظريات في علم النفس وعلم الاجتماع التي تعتقد أن تحقيق سعادة الإنسان كفيل بتوفير العناصر المادية الضرورية وضمان الحاجات الفيزيولوجية له، فإن مدرسة أهل البيت أكدت أنّ التحرر الداخلي هو أساس بناء الشخصية، وأن تحرر النفس من قيود الهوى وسيطرتها على الشهوات والغرائز هو الخطوة الأولى في اتجاه بناء الذات الرسالية التي تعيش حالة السعادة الحقيقية.
والتحرر الداخلي هو الدافع الأساسي للتحرر من كل الأغلال والقيود الاجتماعية والسياسية التي قد تصادر حرية الفرد وكرامته وعزته. يقول الشهيد الصدر: "وهذا التحرر الداخلي أو البناء الداخلي لكيان الانسان، هو في رأي الإسلام، حجر الزاوية في عملية إقامة ا لمجتمع الحرّ السعيد، فما لم يملك الإنسان إرادته ويسيطر على موقفه الداخلي ويحتفظ لإنسانيته المهذبة بالكلمة العليا في تقرير سلوكه لا يستطيع أن يحرّر نفسه في المجال الاجتماعي تحريراً حقيقياً يصمد في وجه الإغراء، ولا أن يخوض معركة التحرير الخارجي بجدارة وبسالة، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.."
2ـ تلبية الحاجات الواقعية للإنسان: إن المنهج المطروح، على بساطته ووضوحه، يلبّي الحاجات الواقعية للإنسان حتى تلك التي تنادي بها البحوث الحديثة في علم النفس. ولئن كان بعض المفكرين الإسلاميين لا يتفق مع هذه النظريات فيما تعترف به من حاجات: كحاجة الانتماء، والحاجة إلى الحب والتقدير الاجتماعي، ويعتبرها من إفرازات التحاليل الأرضية التي قطعت صلة الإنسان بالله فصارت بحاجة إلى مثل هذه الارتباطات والحاجات.
لكننا، بتتبع نصوص الأئمة (ع)، نراهم رغم تأكيدهم على العلاقة بالله وجعلها أساس البناء التربوي (كما حللنا ذلك سابقاً) وأنها كفيلة بتحقيق التوازن النفسي للمرء وتلبية حاجاته النفسية "يا فضيل بن يسار، إنه من كان همّه هما واحداً كفاه الله همّه، ومن كان همّه في كل واد لم يبال الله بأي واد هلك". "يا فضيل، ما على رجل عرف هذا الأمر لو كان على جبل حتى يأتيه الموت".
رغم كل ذلك نراها تنكر الحاجات النفسية المشار اليها وإنما حاولت معالجتها في إطار الإيمان بالله وداخل منظومة الاعتقاد الديني لا خارجها، على عكس الأطروحات المادية الأرضية التي تعتبر أن تلك الحاجات أصيلة وأن تحقيقها لوحدها كفيل بضمان التوازن. فحاجة الانتماء يكون إشباعها الواقعي من خلال الارتباط الواعي بالله سبحانه وتعالى.
والحاجة للحب يحاول المنهج توفيرها انطلاقاً من العلاقات الرسالية وروح الإخاء والصفاء التي تشع من خلالها: "إنّ المؤمن ليسكن إلى أخيه المؤمن كما يسكن الظمآن إلى الماء البارد".
والأحاديث التي تعظم منزلة المؤمن وترفع من شأنه والتي يمكن اعتبارها إستجابة لحاجة التقدير: "شيعتنا ينظرون بنور الله، ويتقلبون في رحمة الله، ويفوزون بكرامة الله". وعن رسول الله (ص): "إن حديث آل محمد صعب مستصعب، لا يؤمن به إلاّ ملك مقرّب، أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان".
بل يمكن أن نعتبر المنهج، برمته، وبما طرحه من تفصيلات محاولة لتشكيل هوية المؤمن وإطاراً توجيهياً له في الوقت نفسه، وكلاهما (الهوية والإطار التوجيهي) من الحاجات الإنسانية الضرورية عند فروم.
3ـ وسطية المنهج: نصّ الإمام الصادق على هذه الوسطية في قوله لفضيل بن يسار: " يا فضيل بن يسار، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وأنا وشيعتنا هدينا الصراط المستقيم".
ولعل من أبرز مظاهر هذه الوسطية التوفيق بين حاجات الفرد وحاجات المجتمع. هذا التوفيق الذي مثل تحدياً صارخاً لكل المدارس الاجتماعية والتربوية ونظرياتها؛ حيث لم تنجح النجاح الحاسم في الإجابة وتحقيق المعادلة بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع.
أمّا الطرح الإسلامي الذي يتجلى في منهج أهل البيت (ع) فإنه، وانطلاقاً من الفهم المعنوي للحياة، المنبثق من القاعدة العقائدية للإسلام يجعل من الحياة الدنيا مرحلة ورحلة تكامل وكدّ وجهاد في اتجاه النشأة الأخروية الخالدة، فتغدو كل التضحيات وكل التنازلات من أجل الآخرين عملاً للحساب الشخصي أيضا، إضافة إلى كونه سبيلاً للذة المعنوية بوصفه طريقاً لمرضاة الله.
إن التعارض الموهوم بين الفرد والجماعة يتهاوى في إطار هذا التحليل الواقعي للحياة...الذي يمنح للإنسان آفاقاً واسعة للعمل والتواصل مع الآخرين، والسعي نحو نفعهم والتضحية لأجلهم تحت مظلة حب الله وطاعته، من دون أن تصادر كل تلك التضحيات لذته الخاصة ومنفعته الشخصية في نهاية الطريق.
4ـ واقعية المنهج: نستشف هذه الواقعية في غير مظهر، ولكن نكتفي هنا بنقطتين مركزيتين:
1ـ تناغم المنهج مع التركيبة النفسية والعقلية للإنسان، وإقراره لكل الحاجات الإنسانية، الحاجات الشخصية الفيزيولوجية : (الطعام، الشراب، الجنس) والتي حرص الأئمة أن يكون إشباعها في نطاق العقل والإيمان من دون الانغماس فيها، لتغدو قيداً يصادر حرية الفرد "بئس المؤمن رغب بذلّه".
والحاجات المعرفية العقلية، والحاجات الاجتماعية، ورأينا كيف يضمن المنهج، من خلال توجيهاته، هذه الحاجات قصد تحقيق بناء الذات المؤمنة المتوازنة.
2ـ إقرار الأئمة أن السير في اتجاه هذا المنهج دور صعب محفوف بالشدائد، لما جبلت عليه النفس من الركون إلى الراحة والدعة، ولما يتسم به المنهج من معالجات جذرية تتطلب معاهدة طويلة الأمد لذلك فإن السائرين معرّضون للانتكاسات:
عن أبي عبد الله (ع): "المؤمن صنفان: فمؤمن صدق بعهد الله ووفّى بشرطه، وذلك قول الله عز وجل: "رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه...فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة وذلك ممن يشفع ولا يشفع له، ومؤمن كخامة الزرع تعوج أحياناً وتقوم أحياناً، فذلك من تصيبه أهوال الدنيا وأهوال الآخرة، وذلك ممن يشفع له ولا يشفع".
وفي دائرة هذا الضوء نتفهم الأحاديث التي وردت واصفة المؤمنين بالقلة والندرة..تأكيداً لهذا المعنى: وعورة الطريق...وحجم التحديات فيه "المؤمنة أعزّ من المؤمن، والمؤمن أعزّ من الكبريت الأحمر، فمن رأى منكم الكبريت الأحمر".
المنهج سبيل النجاة:
إن المنهج السلوكي لمدرسة أهل البيت يختزن، داخله، كل المقومات الضرورية لصنع الانسان النموذجي الذي يتوفر على كل الكمالات الروحية والمعنوية، والذي يعيش التوازن النفسي في أجلى مظاهره.
إن المنهج يصنع الذات القادرة حقاً على الفعل الإيجابي داخل ساحات البناء الحضاري والتغيير الاجتماعي. وبالتالي يضمن السعادة التي تاه الانسان شرقاً وغرباً باحثاً عنها يمنة ويسرة، وقد غاب عنه أنها تنبع أساساً من داخله بالانفتاح الواعي على الله وتحقيق العدالة الكاملة في نفسه والالتزام المسؤول بخط الطاعة والحب والولاء لله في السلوك. إن المنهج هو صورة أخرى من تجليات عظمة مدرسة أهل البيت التي تطرح للبشرية خطّ الحياة والسعادة الأبدية، خطّاً ينتصر للعقل والعاطفة معاً، ويصهر مصالح الفرد والجماعة في بوتقة واحدة ويكرّس القيم الإنسانية الخالدة.
(يا أبها الذين آمنوا استجيبوا لله والرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
ولكم خالص الود والتقدير
أخوكم
أمير
المفضلات