أنا وحرية الآخر
فحرية الانسان تحدد بالنسبة لحرية الاخرين، ويرى البعض ان الاهم هو الايمان بحرية الاخرين قبل حريتي، حتى يسعد الاخرون واسعد انا، وبالتالي يتحقق الامن الاجتماعي، ذلك ان: "الحرية كالشعور لا يوجدان بجوهرهما بالنسبة الى حرية الاخر وشعوره من خلالها ولأجلها، وان جوهر الحرية المبدعة هو ابداع الاخر، ان حرية كل انسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق الا بتعايش حريات في مجتمع حريات (يمثل) مجتمعات سياسية مؤلفة من اناس احرار متحلين بالشعور والحرية"(9).
هذه النظرة التفاؤلية والايجابية لضوابط الحرية والتعامل مع الاخرين، هي نظرة يحاول الاسلام ان يؤصلها في نفوس الناس، من قبيل ان ينظر الانسان الى احتياجات جاره قبل ان ينظر الى داره، وان لا يتطلع الى نوافذ الجيران لانه خلاف الحرية الذاتية للجار وتسلط عليه من غير وجه حق، ومعارضة مع مبادئ حق الجيرة التي أقرتها الرسالة الاسلامية، وان يعوده اذا مرض ويشيعه اذا مات، ويحضر اتراحه كما يحضر افراحه، ويفسح له في المجالس(10)، بلحاظ: "الأصل في الانسان الحرية في قبال اخيه الانسان، اذ لا يحق لأي انسان ان يسلب حرية وارادة غيره أو يقيدها، فقد قال أمير المؤمنين (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا)، فالحرية الاسلامية حرية واسعة تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى، التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين وسنن الكون والطبيعة من اجل الاستفادة منها، والحرية في الاسلام لا تعرف لونا معينا وانما هي قيمة دينية مقدسة تشمل جميع الألوان والشعوب، حيث ان الناس سواسية كأسنان المشط"(11).
ومثل هذا المعنى نجده عند الفقيه المدرسي، اذ: "ان القاعدة والاصل كما صرحت بذلك الاحاديث الشريفة عن المعصومين (عليهم السلام) هي: (كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام). ويعزز ذلك قوله تعالى: {خلق لكم ما في الارض جميعا} سورة البقرة:29، وهذه القاعدة شبيهة بالقاعدة الفقهية الاخرى بخصوص الطهارات والنجاسات حيث تقول هذه القاعدة: (كل شيء لك طاهر حتى تعلم نجاسته). اذ الاصل او القاسم المشترك بين القاعدتين هو الامتناع وعدمه سواء في الاستعمال، او الاستهلاك، او الانتفاع. نفهم من تينك القاعدتين
ان مجال الحرية مفتوح حتى يصطدم بحدود حرية الآخرين"(12).
بين الاستبداد والانفلات
والحرية بحد ذاتها "قيمة ذاتية" كما يراها الكثيرون، ونعتقد بذلك ايضا، ولكن هل هي مطلقة لا تحدها حدود؟
يقول أمين عام الجماعة الاسلامية في لبنان ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء القاضي الشيخ فيصل أنور فؤاد مولوي: "ان الحرية لم تكن مطلقة ولا يمكن ان تكون مطلقة في حياة الناس، الحرية هي أهم قيمة انسانية نعم، لكنها لا تتعارض مع القيم الانسانية الاخرى، والحرية الفردية لا يمكن ان تتعارض مع القيم الاجتماعية الاخرى، انما التكامل ضمن الانسان وضمن المجتمع هو الذي يعطي هذه الحرية مقامها ودورها. في تاريخ البشر كلهم الحرية لم تكن الا مقيدة وهي مقيدة دائما بقيدين اثنين: قيد ذاتي لان الانسان بحد ذاته الذي يتمتع بالحرية الكاملة يشعر في نفس الوقت انه يتمتع ايضا بقيم انسانية لا يمكن ان تنفك عنها، فالتوازن بين حريته وبين قيمه الانسانية و بين حريته وبين مسئوليته، هذا التوازن يضع على حريته شيئا من القيود".
ويضيف مولوي: "واذا انتقلنا الى دائرة المجتمع نجد ان الحرية الفردية لا يمكن ان تاخذ مداها وجدواها الا ضمن التكامل مع قيم المجتمع واستقراره وانتظامه ونموه لان المجتمع الانساني هو للفرد الانساني، والفرد لا يمكن ان يعيش بدون مجتمع، والمجتمع لا يمكن ان يعيش الا بقيم اجتماعية بضوابط وأنظمة وأعراف. هذا بلاشك يؤثر على الحرية الفردية ويقيدها ولكن التكامل بين هذه الحرية وبين هذه القيم الاجتماعية هو الذي يجعل الاثنين معا يسيران في خط متواز من اجل بناء انسان افضل وبناء مجتمع افضل." وينتهي مولوي الى بيان حقيقة ثابتة في حياة الانسان وهي ان: "كل تاريخ الانسان افرادا ومجتمعات انما هو حول هذا التوازن بين الحرية الفردية وقيودها الذاتية، وبين الحرية الفردية وقيودها الاجتماعية، كل تاريخ البشر هو عبارة عن هذا التوازن احيانا يميل هنا، احيانا يميل هناك، احيانا يستقيم، لكن هذا هو تاريخ البشر"(13).
التوازن الذي يتحدث عنه الشيخ مولوي والذي يعبر عن رؤية صائبة من وجهة نظري يتحدث عنه الشيخ محمد علي بن علي اكبر التسخيري، عضو المجمع الفقهي الاسلامي الدولي، مع اعتبار الحرية نزعة انسانية اصيلة، فالتوازن كما يعتقد التسخيري انه: "من سمات الواقعية الاسلامية، فان رفض الحرية الانسانية رفضا مطلقا وعدم اخذها بعين الاعتبار في التشريع يؤدي - بلا ريب - الى كبت نزعة انسانية اصيلة بل ويتجاوز بها البعض فيعتبرونها نزعة حيوانية ازدادت تأصلا عند الانسان، وكونها نزعة اصيلة هو الذي يسوّغ (للرأسمالية) ان تبني نظريتها التنظيمية عليها وتدعو اليها، وقد تكون قيمة الحرية أمرا لا يعدله الكثير من القيم الاخرى، فقتل الحرية – كما تفعله الشيوعية-(*) يعني اقل ما يعني نزعة اصيلة في النفس بالاضافة الى ما تؤدي اليه من قتل روح الابداع الخلاق وخلق حالة الاستسلام اليائس للنظام الجبار". وينتهي التسخيري بخلاصة لهذا التوازن بقوله: "اذا كان رفض الحرية – رفضا مطلقا- مضرا بالانسان فان قبولها – قبولا مطلقا- ايضا امر لاشك في ضرره فيجب القول بها وقبولها في الحدود المعقولة"(14).
وهذا التوازن الذي يتحدث عنه التسخيري يختصره الفقيه الشيرازي (1928-2001م) بعبارة واحدة هي ان: "الحرية وسط بين الاستبداد وبين الميوعة والانفلات"(15)، وحسب تعبير الجراح اللبناني، الفلسطيني المولد، الدكتور حداد: "لا تعني الحرية ان للمرء الحق ان يفعل ما يشاء، بل عليه ان يحترم حقوق وحرية الآخرين .. اذ لا يحق للمرء ان يمشي عاريا في الطريق او ان يسرق مال الغير، إن كان الامر الاول من عادات بعض القبائل فلا يؤذي العريان حقوق ابناء قبيلته، اما المرأة التي تلبس تنورة قصيرة وتعرّي أعلى صدرها في بلاد اسلامية، فتسخر من الحرية"(16).
والاسلام الذي عد الحرية اصيلة، فانه في الوقت نفسه لاحظ وبشكل كبير، الجانب الاجتماعي من هذه الحرية، يقول الباحث العراقي الشيخ الصفار: "وقد جعل الاسلام موازين واطرا صحيحة واضحة ترسم لنا معالم الحرية المسؤولة وحدودها، منها (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)، {ولا تعتدوا ان الله لا يحب المعتدين} سورة البقرة:19، {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل} سورة الاسراء: 33، {تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون} سورة البقرة: 229، (ان الله قد حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها)، (ان الله تبارك وتعالى جعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه وجعل على من تعدى ذلك الحد حدّا). وقد جمع لنا الامام امير المؤمنين علي (ع) حدود الحق وحق المجتمع والدولة في تحديد حرية الانسان الذي يسيء استعمال حريته في قوله عليه السلام: من قام بشرائط الحرية اهلّ للعتق ومن قصّر عن احكام الحرية أُعيد الى الرق"(17).
حرية الآخر جهاد
من هنا فان الرسول محمد (ص) اعتبر عدم تعدي الانسان على حقوق الاخرين، وصيانة حريتهم الذاتية من أعظم الجهاد، اذ: "افضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد"(18).
في واقع الامر يتبدى أمامنا فهم واسع لمعاني الجهاد ينصرف عن معنى القتال والحرب، بحث يعتبر رعاية وصيانة حرية الاخرين قمة في الجهاد، ولهذا الحديث الشريف دلالات نفسية كبيرة على علاقة مباشرة بسلوك الانسان، يحتاج معها الانسان الى جهاد نفسه ونوازعه الداخلية قبل عدوه الخارجي، بل ان المرء او الأمَّة لا تستطيع التمكن من عدوها الخارجي اذا لم تتمكن اولا من عدوها الداخلي وهو شهوات ونزعات النفس السلبية، فاذا أحسنت رعاية مصالحها وأعطت لكل انسان حقه، تمكنت من رص صفوفها وغلبت عدوها الخارجي، بل ان التجربة دلت، ان العدو الخارجي بشكل عام انما يقدم على عدوانه اذا رأى التشتت والتشرذم في الامة، لانه يعرف سلفا انه غير قادر على سلب كرامة امة متماسكة وان أعدَّ للعدوان عدته.
ان قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) التي اشار اليها الصفار، هي واحدة من القواعد التي يتم تفعيلها عند تزاحم الحريات او تحديد وضبط حجم وسعة الحرية، ذلك: "ان الاصل هو الحرية فتقييدها (في صورة مزاحمتها لحرية الاخرين او لمصحلة اهم) يجب ان يكون بمقدار دفع الضرر وبمقدار الضرورة، لا اكثر، لان الضرورات تقدر بقدرها، ولا يجوز التعدي عن ذلك واخذه ذريعة للكبت، وحتى لا تحصل تجاوزات يلزم جعل الضمانة الكافية بايكال الامر الى اهل الخبرة والمنتخبين الحقيقيين من قبل الامة، حتى لاتتدخل المطامع الشخصية في ذلك، وليكون تشخيص الموضوع عن رؤية واقعية وملاحظة مصلحة الامة، وفي أي مورد حصل الشك في ان التقييد أهم أم لا، أو ان هذا الشيء محرم أم لا، يؤخذ باصالة الاباحة والحلية، وفي الحديث: كل شيء لك حلال حتى تعلم بانه حرام بعينه"(19).
وفي هذا الاطار يقول الخبير الاقتصادي، والفيلسوف البريطاني، جون ستيوارت مل John Stuart) (Mill, (1806-1873م) في كتابه (ON LIBERTY) (حول الحرية) الذي خطه العام 1859م: "نحن لا نستطيع تحمل كبت أي رأي تؤمن به الأقلية، بوصفها تملك كامل الحرية في عرض رأيها وإعمال ارادتها"(20)، ويقرر مل ان: "المجتمع الذي لا توجد فيه هذه الحريات، ولا تحترم في جملتها، لا يمكن ان يكون حرا حرية كاملة ما لم توجد فيه هذه الحريات، على نحو مطلق وبلا تحفظ"(21).
وعند مل: "ان الحرية ينبغي ان يرخص بها وتجاز فقط الى النقطة التي تصطدم وحرية الفرد الاخر وان لا تتجاوزها، وان تطلب الامر مزيدا من القوانين لتحديد الحرية من اجل حماية الاخرين"(22)، وبنظر مل ان الناس يمتلكون الحق لان يكونوا احرارا واتخاذ أي فعل او عمل لا يؤذي الاخرين وقد اطلق على الافعال عبارة "إحترام أفعال النفس"، واشتهرت عنه الجملة التالية وهو في معرض الحديث عن القوة والحرية: "ان الغاية الوحيدة من استخدام القوة بصورة صحيحة وتطبيقها على كل عضو في المجتمع المدني، انما لمنع وقوع الأذى على الآخرين، وان جاء الاستخدام بالضد من رغبة العضوف وارادته"(23)، فستيوارت مل يشير هنا الى تفضيل مصلحة الجمع وتقديمها على مصلحة الفرد اذا تعارضتا معتبرا: "ان الجانب الاهم من سلوك أي انسان وان يكون منقادا للمجتمع هو ان يشعر بشعور الاخرين، كما هو يشعر بذاته وبحقه في الاستقلال"(24)، لكنه في الوقت نفسه: "أصر بقوة على ان الخصوصيات الذاتية ينبغي ان تترك بنفسها لادارة تجربتها في الحياة حرة من دون تدخل الدولة شريطة ان لا يتعرض احد للأذى في هذه العملية"(25).
ان حدَّ الحرية او ضابطها عند الليبراليين، لا يختلف كثيرا عما عند المفكرين المسلمين، فالحد عندهم، هو حرية الاخرين، وهو حد ينسجم مع كل الشرائع السماوية والارضية وتقره سيرة العقلاء، لكن الاختلاف يقع دوما في حجم الحرية ومدياتها، يقول رئيس ايران السابق، الدكتور محمد خاتمي: "فالليبرالية تعني التحرر ولكن بأي معنى؟ بمعنى التحرر من القيود الخارجية لا الداخلية، وبمعنى انه لا ينبغي ان يحكم الانسان سوى الانسان، ولما كان الانسان بحسب التعريف، كائنا ذا ميول وغرائر وتصورات، فان حريته تعني عدم وضع حد لتلك الميول والغرائز من الخارج، والانسان الحر هو الذي يعيش وفق ما يناسبه ويرتئيه، ولليبرالية حد وهو حرية الاخرين"(26).
وفي هذا الصدد يضع نايجل واربورتون (Nigel Warburton) الباحث في الجامعة الحرة في بريطانيا والمختص بالفلسفة وتاريخها، مفهوما مثبتا للحرية وهو ما عبر عنه بـ: "غياب الاجبار وزوال القسر، فالاجبار يكون قائما عندما يجبرك البعض على نهج سبيل خاص، او منعك من سلك سبيل خاص، فاذا انعدم الشخص او العائق الذي يجبرك فانت حر وفق المفهوم المثبت للحرية"(27).
الحرية والأنا
واذا كانت حدود الحرية تدور في اطار المصالح المشتركة بين الناس، وضمن قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فان مما لا يقبل التأويل ان الناس أولى بأنفسهم، ولكن هل تعطي هذه الأولوية الحق لهم بالتصرف بها كيفما يشاؤون؟
ان قاعدة لا ضرر ولا ضرار، لا تتحدث عن مراعاة حقوق الجانب الاخر فحسب، بل هي تتضمن مراعاة جانب الانسان نفسه، فهو لا يملك التصرف بها وفق رغائبه، لان الرغائب تميل نحو الشر كما تميل نحو الخير، وهي تتأثر بحجم الاستفادة من العقل والتجربة وموالفة السلوك مع الشريعة والقانون، والخروج عن مسار الشريعة والقانون خروج عن المألوف وهو شذوذ، والشذوذ امر ينكره العقل ويستنكره الوجدان، فالانتحار على سبيل المثال لا يمكن قبوله حتى وان كان يبدو من الخارج انه في حدود الحرية الشخصية، ولكننا اذا وافقنا ان الانسان لا يملك حق وجوده في الحياة، وان الذي وهبه الحياة سيسلبها منه بعد حين، نعرف ان الانسان لا يملك حق اسقاط (حق الحياة) عن نفسه الا في مواقف معينة يكون فيها دفع الضرر اهم من حياة الانسان نفسه مثل الدفاع عن الوطن والدفاع عن الاعراض والدماء ودفع العدوان الغاشم، وما شابه ذلك، وهذه ايضا خاضعة لظروف ومقاييس خاصة سنّها الشرع، فالحرية ليست حرية مفرطة وانما هي حرية مشروطة، فالله علة الوجود والخلق، اسبغ ماء الحياة على جسد الانسان.
ومن عدل العلة سريان الحكمة والتوازن الى المعلول، ومن الحكمة والتوازن صيانة الانسان لنفسه جسدا وروحا، ذلك: "ان حياة الانسان ليست ملكا خاصا للفرد، ويتفرع عن ذلك، انه لا يملك اسقاط هذا الحق، ويحرم عليه اتلاف نفسه، او عضو من اعضائه، الا في بعض الاستثناءات التي تأتي في معنى الضرورة الشرعية"(28).
وعلل الشاطبي (ت 790هـ) ذلك بقوله: "لان إحياء النفوس وكمال العقول والاجسام من حق الله تعالى في العباد، لا من حقوق العباد .. الا ان يبتلى المكلف بشيء من ذلك من غير كسبه ولا تسببه، وفات، بسبب ذلك نفسه او عقله او عضو من اعضائه فهناك يتمحض حق العبد"(29).
اذن: "حرية الانسان مكفولة له في الاسلام، ما لم تتعد ممارستها حدود الله، فلا يمكن للانسان ان يقطع أي عضو من جسمه باسم الحرية ولا حق له ان يخدش كرامة الناس، او ان يمس بالحياء وآداب الاخلاق باسم الحرية"(30).
مؤثرات الحرية
من خلال هذه النصوص نجد ان الحرية واسعة جدا، كما ان المستثنى من الحرية امران:
1- ما كان مزاحما لحرية الآخرين.
المفضلات