بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أفضل الخلق وخاتم الانبياء والمرسلين محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين والنعلة الدائمه على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.
من هو المثقف؟ و هل يحجب المنصب السياسي والإداري دور المثقف في استئناف مشروعه الثقافي؟
المثقف هو ضمير المجتمع الحي، وعينه الساهرة، وقلبه الذي ينبض بالحياة من دون كلل أو ملل. انه النتاج الذي لا يتوقف، والمستشار المؤتمن، والرقيب الشجاع، الذي يعرف كيف ومتى يقول نعم أو لا، لما يجري في المجتمع. انه كالمصفاة التي لا تسمح لذرات التراب والحصى الصغيرة، أن تمر مع الرز إلى الطعام. وإذا كانت الثقافة هي بصيرة المجتمع، فان المثقف هو بصره الذي يجب أن يبقى سالما من أي عيب أو مرض، من أجل أن يتمكن من رؤية الأشياء بشكل صحيح، من دون عمى أو غبش يؤثر على الرؤية، فلو أصيبت العين (المثقف هنا) بالرمد، فسوف يفقد المجتمع قابليته على الرؤية. ولكل ذلك، يجب أن يتحلى المثقف بكامل الحرية والاستقلال والإرادة والضمير الحي، حتى لا ينهار أمام إغراءات السلطة وزبارج الموقع، ولا يخشى سوط الجلاد أو دعايات الظلام والمتخلفين، أو تهديدات مجموعات العنف والإرهاب. ومن أجل أن يحتفظ المثقف بدوره الحقيقي في المجتمع، عليه:
أولا؛ أن لا يحد نفسه بالخطوط الحمراء المصطنعة، فلا يكون إلا الله والضمير، رقيباه الحقيقيان، أما رقابة السلطة والحزب والعشيرة والمجاملة والمحاباة والترضيات، فان كلها خطوط حمراء مصطنعة، غير حقيقية وكاذبة، إذا استسلم لها المثقف فستسلب منه الإرادة، وتحوله إلى مجرد (مثقف) سلطوي كما هو حال مثقفي السلطات في البلاد العربية على وجه التحديد، ممن تهاون مع الخطوط الحمراء وظل يتنازل لها إلى أن وصل إلى الحضيض، فراح يبرر للأنظمة الديكتاتورية استبدادها، وللحاكم الطاغي جبروته، بعد أن خسر موقعه الحقيقي في المجتمع، وتحول إلى صولجان بيد الحاكم، يبرر له كل أفعاله، ويقلب المفاهيم رأسا على عقب، فالهزائم تحولت إلى انتصارات باهرة، والمجرم تحول إلى بطل قومي لا يضاهى، وسجناء الرأي تحولوا إلى مجرمين ولصوص، وحفلات التعذيب والقتل والذبح الطائفي تحولت إلى جهاد في سبيل الله أو مقاومة ضد عدو وهمي لا يوجد إلا في مخيلة فقهاء السلطان ومثقفيه المأجورين، وهكذا، حتى انهارت الأمة ووصلت إلى حضيض ما هي عليه الآن، من تخلف وأمية وتراجع مدني وحضاري مرعب.
ثانيا؛ إذا تعارضت حرية المثقف وإرادته، مع أي موقع من مواقع السلطة، فعليه أن لا يتردد قيد أنملة في اختيار الأولى ورفض الثانية، لأن قيمة المثقف ومصداقيته بالحرية وليس بالموقع، فحريته كيانه الذي يجب أن لا يفرقه عنه إلا الموت، وروحه التي تسري في عروقه مع الدم، أما الموقع فليس أكثر من كيان مؤقت لا يجوز للمثقف أن يستبدله بحقيقة وجوده، وأعني بها حريته وإرادته. يجب أن لا يجد المثقف نفسه إلا في الحرية.
قديما كان السلطان أو الخليفة يأمر بقطع لسان المثقف إذا ضاق به ذرعا، وكان المقصود بعبارة قطع اللسان، هو أن تصل إليه منه عن طريق زبانيته صرة من الذهب أو الدنانير، تكسر قلمه وتخرس لسانه، وتعطل ضميره إلى إشعار آخر، أو كان يقصد بالعبارة، أحيانا، منحه موقعا في السلطة، يخجل بعده الجهر برأيه إذا كان مخالفا لإرادة السلطان أو الخليفة، ولقد كان أكثر المثقفين، آنئذ، يستسلمون لإغراء السلطة، فيسلموا ألسنتهم إلى جلاد المال أو الموقع ليقطعه والى الأبد، أما من رحم ربي، وقليل ما هم، فكانوا يصمدون أمام إغراء السلطان، فيرفضون تسليم ضميرهم إليه، ويرفضون المال والموقع عندما يكون ثمنا لسكوتهم أو تنازلهم عن حريتهم وإرادتهم، وبالتالي موقعهم الحقيقي في المجتمع، بالرغم من أن صمودهم هذا، كان يكلفهم الكثير، فكانوا في أحيان كثيرة، يفقدون حياتهم، أو يقضون ما بقي منها في قعر السجون أو غياهب المعتقلات.
ثالثا؛ لا شئ يزين المثقف ونتاجه مثل الحرية وروح المسؤولية والإرادة الصلبة التي لا تستسلم لشئ إلا للحق ولكل ما هو صحيح من رؤى وأفكار. فالسلطة لا تزين المثقف أبدا، كما أن الجاه والمال والموقع، أن كل ذلك لا يزينه البتة، ولذلك يجب على المثقف أن لا يتهالك على أي شئ من هذا، خاصة عندما تأتي على حساب رؤيته الصحيحة للأشياء. أن المجتمع اليوم بحاجة إلى المثقف، أكثر من حاجته لأي شيء آخر، لأن المجتمع اليوم بحاجة إلى من يتعاون معهم على تحديد المسير القويم برؤية صحيحة، شجاعة ومسؤولة، كما أنهم بحاجة إلى من ينبههم إلى مخاطر الطريق، ويساعدهم على كشف الخيط الأبيض من الخيط الأسود الذي يفصل بين الحق والباطل، بين الصحيح والخطأ، كما أنهم بحاجة إلى من يساعدهم على مراقبة السلطة وأداء المسؤولين، فلو انخرط المثقف في مشروع السلطة، مستسلما، فمن الذي، يا ترى، سيؤدي كل هذه الأدوار؟. المجتمع بحاجة إلى المثقف الحقيقي، وليس إلى أنصاف المثقفين من الذين يتميزون بقدرات عجيبة وخارقة على استبدال جلودهم وألوانهم وولاءاتهم بين عشية وضحاها.
إنهم بحاجة إلى المثقف الشجاع، الذي يحمل روحه على راحتيه ويدور بها في الأسواق بحثا عن الحقيقة، وليس إلى من يحمل بضاعة مزجاة يدور بها على أبواب المسؤولين، يبيعها لمن يدفع أكثر، مالا أو موقعا، لا فرق.
رابعا؛ لا يزين المثقف إلا عقله، فإذا أقفل عليه، وسرحه إلى حين ومنحه إجازة مفتوحة، انتهى أمره ودوره المأمول.
لذلك أعتقد، لو تعارضت حرية المثقف في قول ما يعتقده صحيحا، مع أي شئ، ولم يكن أمامه إلا السكوت على أن لايتفوه بالباطل ارضاءا للسلطان، فعليه أن يختار السكوت، فبه يصون دوره ومصداقيته، فتأجيل قول الرأي الذي يعتقد به المثقف، إلى حين، أفضل بكثير من قول الباطل الذي لا يؤمن به، والتأجيل مكرها أسلم من قول الزور مكرها، أليس كذلك؟.
خامسا؛ وأخيرا، فان على المجتمع تقع مسؤولية تمكين المثقف من أداء دوره، من خلال احتضانه، وعدم تركه معوزا لحاجة، حتى لا يضطر إلى ترك ضميره في البيت، ذاهبا عائدا من والى قصر السلطان، بحثا عن لقمة العيش، ولنتذكر جميعا، بأن قيمة المجتمعات ووزنها ووجودها ودورها وكيانها الحقيقي ومنزلتها بين الأمم، إنما تقاس بمثقفيها، نوعا وعددا، ولذلك يلزم على المجتمع احتضان مثقفيه، وعدم التفريط بهم وتسليمهم إلى القدر. لقد حاول عدد كبير من المثقفين أن يجدوا موقعهم الطبيعي في المجتمع إلا أنهم اصطدموا وللأسف الشديد، بعقبات كثيرة تقف على رأسها الحزبية والمحاصصة والتوافقات السياسية التي تركت ضلالها على مختلف مرافق الحياة الاجتماعية. ان من حق المثقف، إذا أراد أن يواصل مشروعه الثقافي، أن يتمسك باستقلاليته، من دون أن يعني ذلك معاداته لأي طرف سياسي من الأطراف الفرقاء، فلماذا يحاربونه على ذلك؟ ولماذا يأخذون عليه تشبثه بالاستقلالية في التفكير والرؤية والقرار؟. يريدونه مثقفا تحت الطلب، يمدح متى ما فرحوا، ويذم متى ما غضبوا، وهم بذلك يحطمون الثقافة ويدمرون المشروع الثقافي، وان المثقف الحقيقي يرفض هذا النوع من الأدوار، دور الإمعات، وان كلفه ذلك حياته التي بين جنبيه. أن من حق المثقف أن يبقى مستقلا عن أي قرار أو اتجاه سياسي، وعلى الجميع أن يتعامل مع هذه الحقيقة كشئ صحيح وأمر سليم، فلا يحاربونه على ذلك، فيتوسلون التسقيط والتهديد والتخوين والاتهام، بمجرد أنه يرفض الانتماء أو لا يقبل أن يحسب على تيار سياسي ما، إذ يكفي المثقف أنه مع الاتجاه العام الذي تختاره أغلبية المجتمع وليس عليه، بعد ذلك، أن ينتمي إلى التفاصيل، أو أن يعلن ولاءه لها، فان ذلك يعيق مشروعه الثقافي، إن عاجلا أم آجلا، ولذلك فهو يسعى إلى الاحتفاظ بموقعه الطبيعي في المجتمع، باذلا لذلك قصارى جهده من أجل أن يستقيم مشروعه الثقافي فلا يركل بأقدام الآخرين..... لهذا يجب على المجتمع, الشرفاء احتواء المثقف كي لا يطر لما لا يريد وثم نلومه و نحاسبه على انحرافه.
لكم خالص تحيات واحترام اخوكم
الباســـــــــــــــــــــــــل
المفضلات