احد ابرز العوائق التي تقف امام وأد الفتنة الطائفية في المجتمع، توفر قنوات داخلية تحرض على كراهية الاخر المسلم ونبذ التعامل معه، واعتبار هذا الموقف العدائي موقفا ايمانيا واسباغ الشرعية عليه، وتتضمن الكتب الفقهية المفصلة مباحث تتعلق باستخلاص حكم شرعي لمسألة غاب عنها الدليل، فيذهب بعض الفقهاء للقول بضرورة مخالفة ما ذهب اليه قول المذهب الاخر.

ان التأسيس الفكري لضرورة الوقوف في جبهة مقابلة للاخر بسبب انتمائه المذهبي يتم لاعتبارات تتراوح بين الحكم بكون الاخر تعمد مخالفة النصوص الصحيحة، وتنكب عن اتباع الطريق القويم، وبين التقرير بأن دين الاخر ومبانيه الشرعية هي محل شك بالكامل.

لقد اعتنى المسلمون برواية «الفرقة الناجية» كما لم يعتنوا بغيرها من الروايات، ووضعوا لها تفسيرات لا تخرج افضلها عن القول بنجاة طرف واحد وهلاك الاخرين، اذ ان جنة الله لا تتسع الا لفرقة واحدة منهم، رغم ان كل فرقة لا تستبعد ان يعفو الله عن بعض الملاحدة لان الاسلام لم يصلهم، ولأن رحمة الله واسعة شاملة، وتعتقد الفرقتان العظيمتان «السنة والشيعة» ان خروج الامام المهدي المُبشر به في آخر الزمان سيؤدي الى التحاق قوافل من المسيحيين وفرق من اليهود في ذلك الركب، لكن دعاة التشدد من كل طرف يستبعدون امكانية ان يهدي الله احدا من الطرف الاخر ليلتحق في ذلك الركب.

ان الاصرار على وضع سدود لا تكتفي بتخطئة الاخر، وانما تقرر مصيره الاخروي وتصنفه «من اصحاب السعير» هي محاولة لغلق كافة الابواب امام دعاة الوحدة ولملمة الصف، خشية ان تؤدي مساعيهم الى اذابة الجليد المتراكم بين الجماعتين، ويستند هذا التحليل الى مقولات متكاثرة يحذر المتشددون خلالها اصحابهم المعتدلين من خطورة الانسياق في علاقات ايجابية مع الطرف الاخر، لما سوف يحدثه هذا العمل من اضرار على العقيدة الصحيحة.

اللافت للنظر ان دعاة التشدد الديني، ومن يفترض بهم الحرص على تطبيقات النصوص بحذافيرها، هم اكثر المتورطين عملاً بتقسيم الامة وتشتيت شملها، وهم سادة توسعة الشقة بين الطرفين واكثر من يحذرون من خطر الوحدة التي أمرنا الله بها، وان كانت بعض الحكومات اسرفت في تأكيد الفرقة وزرع الفتنة تطبيقا للمثل «فرق تسد»، فان مساعي دعاة التشدد الديني بُذلت لاحكام السيطرة على الاتباع وضمان عدم تراضيهم في مواجهة المختلفين، فالانفتاح والحوار وحسن الظن بالاخر كلها امارات للخروج عن هيمنة هذا الصنف من الدعاة، فكان لهم «سابقة» اشغال مجتمعاتهم بالصراعات الداخلية، وتفويت فرصة لملمة الصف.

ما يتوفر بين طيات الكتب المعتبرة لا يشي بأن قيادات المجتمع الاسلامي تورطت في تكفير او اخراج المختلفين معهم عن الدين، ولم نجد حرصاً منهم على تقليل المحسوبين على جنان الرحمن، بل هي تؤكد انهم تعاطوا بصورة راقية مع المختلفين، ففي زحمة المشهد الدامي في كربلاء يسعى الامام الحسين لارشاد الجيش المقابل وحثهم على التراجع عن موقفهم في الدفاع عن الباطل ومحاولة حقن دماء المسلمين، وقبل ذلك استنكر الامام علي بن ابي طالب على بعض اصحابه شتمهم للخوارج رغم موقفهم المناهض لحكومته، ولم يمنعه هذا من ان يقر لهم حقوقاً مدنية وفكرية «لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله، ولا نبدأكم بقتال، ولا نمنعكم الفيء ما دامت ايدينا معكم».

تشير الحادثة الاخيرة الى سعة صدر «المثال الاسلامي الراقي» في تعاطيه مع المختلفين معه في الرأي، وعدم الميل لعزلهم او طردهم من المجتمع الاسلامي بل على عكس ذلك سعى لاعادة تأهيلهم وحل اشكالياتهم، وان اصروا عليها فان طرق التعبير عن وجهات نظرهم تظل مفتوحة، ليس من الخارج بل في داخل المجتمع، ومن خلال الاستفادة من نفس الاجهزة والامكانات المتوفرة للجميع.

وينقل الحافظ ابو بكر ابن ابي شيبة في مصنفه انه: سئل علي عن اهل الجمل ـ بعد الموقعة ـ قال، قيل: أمشركون هم ؟ قال: من الشرك فروا، قيل أمنافقون هم ؟ قال: ان المنافقين لا يذكرون الله الاقليلا. قيل: فما هم؟ قال: اخواننا بغوا علينا، ويمكن في هذه اللحظة ان نتفهم كيف تسامى الامام عن شتم مخالفيه ونهي اصحابه عن فعل ذلك؟