تابع دعوة لمكاشفة الذات..
رمضان .. شهر التأمل ..
لا يوجد شهر آخر يماثل شهر رمضان فهو شهر يقف فيه الإنسان متدبراً متأملاً ففيه ( تتضاعف الحسنات وتمحى السيئات) كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله, وفي هذا الشهر فرصة عمر كبرى للحصول على مغفرة الله (إن الشقي من حرم من غفران الله في هذا الشهر العظيم) كما في الحديث النبوي, وفي رواية أخرى (من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله) وورد أيضاً عنه ( فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له)..
وقد يغفل بعض عن حصول تلك النتائج هو بحاجة إلى توجه و سعي, فهذا الشهر ينبغي أن يشكل شهر مراجعة وتفكير وتأمل ومحاسبة الذات, إذ حينما يمتنع الإنسان في هذا الشهر الكريم عن الطعام والشراب وبقية الشهوات التي يلتصق بها يومياً, فإنه قد تخلص من تلك الانشدادات مما يعطيه فرصة للانتباه نحو ذاته ونفسه,وتأتي تلك الأجواء الروحية التي تحث عليها التعاليم الإسلامية لتحسن من فرص الاستفادة من الشهر الكريم, فصلاة الليل مثلاً فرصة حقيقة للخلوة مع الله, ولا ينبغي للمؤمن أن يفوت ساعات الليل في النوم أو الارتباطات الاجتماعية ويحرم نفسه من نصف ساعة ينفرد فيها مع ربه, بعد انتصاف الليل وفي بداية وقت هذه الصلاة المستحبة العظيمة, وينبغي أن يخطط المؤمن لهذه الصلاة حتى تؤتي بأفضل ثمارها ونتائجها, فيؤديها وهو في نشاط وقوة , وليس مجرد إسقاط واجب أو مستحب , بل غرضه منها تحقيق أهدافها قال عز وجل ( وَمِن اللَّيل فَتَهَجَّ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَن يَبعَثَك رَبُّك مَقَاماَ مَحمُوداً) ..
وقال صلى الله عليه وآله " إن العبد إذا تخلى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه اثبت الله النور في قلبه.... ثم يقول جلا جلاله لملائكته: ملائكتي انظروا إلى عبدي فقد تخلى بي في جوف الليل المظلم والبطالون لاهون غافلون نيام اشهدوا أني غفرت له" ..
وقراءة القرآن الكريم والتي ورد الحث عليها أكثر في هذا الشهر المبارك, فهو شهر القرآن يقول تعالى:" شَهرُ رَمَضَانَ الذي أُنِزلَ ِفيِه القُرآن" وفي الحديث الشريف:( لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان) كما ورد أن من ( تلا فيه آية كان له مثل من ختم القرآن في غيره من الشهور) ..
هذه القراءة إنما تخدم توجه الإنسان للانفتاح على ذاته ومكاشفتها وتلمس ثغراتها و أخطاءها, لكن ذلك مشروط بالتدبر في تلاوة القرآن والاهتمام بفهم معانيه, والنظر مدى الالتزام بأوامر القرآن ونواهيه ..
روي عن الإمام علي (ع) :( أن لا خير في قراءة ليس فيها تدبر. تدبروا آيات القرآن واعتبروا به فإنه أبغ العبر ) ..
إن البعض من الناس تعودوا أن يقرؤوا ختمات من القرآن في شهر رمضان, وهي عادة جيدة, لكن ينبغي أن يكون الهدف طي الصفحات دون استفادة وتمعن..
وإذا ما قرأ الإنسان آية من الذكر الحكيم فينبغي أن يقف متسائلاَ عن موقعه مما تقول تلك الآية, ليفسح لها المجال للتأثير في قلبه, وللتغيير في سلوكه, ورد عنه (ص) أنه قال: ( إن هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد. قيل: يا رسول الله فما جلاؤها؟ قال تلاوة القرآن)..
وبذلك يعالج الإنسان أمراض نفسه وثغرات شخصيته فالقرآن (شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدورِ)..
والأدعية المأثورة في شهر رمضان كدعاء الافتتاح ودعاء السحر وأدعية الأيام والليالي كلها كنوز تربوية روحية, تبعث في الإنسان روح الجرأة على مصارحة ذاته, ومكاشفة نفسه, وتشحذ همته وإرادته للتغير والتطوير والتوبة عن الذنوب والأخطاء. كما تؤكد في نفسه عظمة الخالق وخطورة المصير, وتجعله أمام حقائق وجوده وواقعه دون حجاب.
وحينما يقرأ الإنسان دعاء كدعاء السحر الذي رواه أبو حمزة الثمالي رضي الله عنه عن الإمام زين العابدين(ع), فإن عليه أن يعتبر فقرات الدعاء تعبيراً عما في نفسه هو, لا أن يقرأه كخطاب من شخص آخر لربه.
مجالات التأمل الذاتي..إن حاجة الإنسان إلى التأمل والمراجعة لها أهمية قصوى في أبعاد ثلاثة:
البعد الأول: المراجعة الفكرية,,
أن يراجع الإنسان أفكاره وقناعاته ويتساءل عن مقدار الحق والصواب فيها, ولو أن الإنسان أفكارهم وانتماءاتهم لربما أن الناس جميعاً استطاعوا أن يغيروا الأخطاء والانحرافات فيها غير أن لسان حال الكثير من الناس (إنَّا وَجَدنَا آَباءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثاِرهِم مُقْتَدونَ) وليكن الإنسان حراً مع نفسه قوياَ في ذاته إذا ما اكتشف أنه على خطأ ما,فلا يتهيب أو يتردد من التغيير والتصحيح..
البعد الثاني: المراجعة النفسية ,,
أن يراجع الإنسان الصفات النفسية التي تنطوي عليها شخصيته فهل هو جبان أم شجاع؟ جريء أم متردد؟ حازم أم لين؟ صادق أم كاذب؟ صريح أم ملتو؟ كسول أم نشيط؟...الخ. وليطرح الإنسان على نفسه عدداً من الأسئلة التي تكشف عن هذا البعد, مثل ماذا سأفعل لو قصدني فقير في بيتي؟ ماذا سأفعل لو عبث الأطفال بأثاث المنزل؟ ماذا سأفعل لو حدث أمامي حادث سير؟ وكيف سيكون رد فعلي لو أسيء إلي في مكان عام ؟ وكيف أقرر لو تعارضت مصلحتي الشخصية مع المبدأ أو المصلحة العامة؟..
وتأتي أهمية هذه المراجعة في أن الإنسان ينبغي أن يقرر بعدها أن يصلح من كل خلل نفسي عنده وأن يعمل على تطوير نفسه وتقديمها خطوات إلى الأمام ..
البعد الثالث: المراجعة الاجتماعية والسلوكية,,
أن يراجع الإنسان سلوكه وتصرفاته مع الآخرين, بدءاَ من زوجته وأطفاله و انتهاءاً بخدمه وعماله, مرورا بأرحامه وأصدقائه وسائر الناس ممن يتعامل معهم أو يرتبط بهم.
وهذا الشهر الكريم هو خير مناسبة للارتقاء بالأداء الاجتماعي للمؤمن, ولتصفية كل الخلافات والحزازات الاجتماعية والعقد الشخصية بين الإنسان والآخرين.
والسلام
أختكم..
شجون آل البيت(ع)
المفضلات