فقال له بضعفِ صوت ورأفة ورحمة:
يا هذا لقد جئت أمراً عظيماً ، وخطباً جسيماً،
أبئس الإمام ُكنتُ لك حتى أجزلت عليَّ بهذا الجزاء؟
ألم أكُن شفيقاً عليك وآثرتُك على غيرِك وأحسنتُ إليك وزدتُ في عطائِك ؟
ألم يقال لي فيك كذا وكذا، فخلَّيتُ لكَ السبيل. ومنحتُك عطائي ‘ وقد كنتُ أعلم أنك قاتلي لا مُحالة ‘ ولكن رَجوتُ بذلك الاستظهار من الله تعالى عليك ‘
فغَلَبَتْ عليكَ الشقاوة فقتلتني يا شقي الأشقياء؟
فدَمِعَت عينا ابن ملجم وقال يا أمير المؤمنين:
أفأنتَ تُنقذُ من في النار ... قال له: صَدَقت ..
ثم التفتَ إلى ولده الحَسَن (سلام الله عليه )
وقال له: إرفق يا ولدي بأسيرِك وارحمه وأحسن إليه واشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمِّ رأسه وقلبُه يرتجف خوفاً وفزعاً؟؟
فقال له الحسن أبة انه قد قتلك وأفجعنا فيك ؟
فقال (ع ): نعم يا بُني نحنُ أهلُ بيتٍ لا نزداد على الذنب إلينا إلا كرماً وعفواً والرحمة والشفقة من شيمتنا ‘بحقي عليك أطعِمهُ يا بُني مما تأكل!
واسقه مما تشرب! ولا تقيد له قدماً ولا تَغُلَّ له يداً ! فإن أنا مِتُّ فاقتص منه بأن تقتله وتضربُه ضربة واحدة وان أنا عِشت فانا أولى به بالعفو عنه وما أصنَعُ به ..
ثمَّ أمر أن يحملوه إلى منزله .. فحملوه والناس حوله يبكون وينتحبون، وكان الحسن والحسين أشدَّ الناس بكاءأً وحزناً فكان الحسين (عليه السلام) يبكي ويقول: يا أبتاه من لنا بعدك ؟ لا يوم كيومِك إلا يوم رسول الله،
حتى وصلوا قريبا من الدار .. التفت إليهم أمير المؤمنين
وقال أنزلوني ودعوني أمشي على قدمي
قالوا لماذا يا أبا الحسن ؟ قال .. إني أخشى أن تراني ابنتي زينب بهذه الحالة فتجزع .. فأنزلوه قرب الدار .

فلما نظرت زينب الى أبيها ..مُعَصَّب الرأس والدماء تسيل على وجهه وكريمته ..
صاحت وا أبتاه .. وا علياه

أقبلن بناتُ رسول الله وحريمُه ‘ وجلسن حوله ينظرن إلى أسدِ الله وشبيه
رسول الله وهو بتلك الحالة، فصاحت زينب الكبرى
أبتاه من للصغير حتى يكبُر؟ ومن للكبير بين الملأ ؟
أبتاه حُزننا عليك طويل، وعبرتنا لا ترقا
فضج الناس من وراء الحُجرة بالبكاء والنحيب،
ففاضت عينا أمير المؤمنين بالدموع وسالت على خدَّيه ..
واجتمع أطباء الكوفة فوصفوا للإمام اللبن،
فكان اللبن طعامُه وشرابُه، وكان يغمى عليه ساعة بعد ساعة، فناوله الحسن قدحاً من اللبن فشربَ منه قليلاً، ثم نحّاهُ عن فمِه وقال احملوه إلى أسيركم ! ثم قال للحسن: بُني بحقي عليك ارفقوا به إلى حين موتي !
أطعمه مما تأكل، واسقيه مما تشرب حتى تكون أكرم منه!!
وكان اللعين ابن ملجم محبوساً في بيت، فحملوا إليه اللبن
قال محمد بن الحنيفة: بتنا ليلة عشرين من شهر رمضان
مع أبي أمير المؤمنين وقد نزل السم إلى قدميه،
وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه، ويخبرنا بأمره إلى طلوع الفجر، فلما أصبح استأذن الناس عليه،
فأذنَ لهم بالدخول، فدخلوا عليه واقبلوا يسلِّمون عليه و يرد عليهم السلام
ثم قال
سار المثلُ ..وحُقِّقَ الأجلُ ..وقرُبَ الرَّحيل .. ولم يَبقَ من العمر إلاّ القليل
أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني ،
أنا المخبرُ عَن الكائنات.. أنا المفسِّرُ للآيات..
أنا سفينةُ النجاة..أنا الأمنُ من النيران... أنا المفسِّرُ للقرآن ..
أنا الساقي العطشان.. انا ابو المهدي القائمِ في آخر الزمان
وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم !!
فبكى الناس بكاء شديداً، وأشفقوا أن يسألوه تخفيفاً عنه

فقام إليه حِجرِ بنِ عدي الطائي .. وقال
فيا أسفي على المولى التقيِّ أبي الأطهار حيدرةَ الزكيِّ
قتله كـــافر حنـث زنيم لعين فاســـــق نغل شـقي
فيلعن ربنا من حاد عنكم ويبرء منهم لعنا وبيِّ
لأنَّكُمُ بيومِ الحشر ذخري وأنتمْ عدَّةالهادي النبيِّ
فلما بصر به الإمام وسمع شعرَه‘ قال له: كيف بك يا حِجر إذا دُعيت إلى البراءة مني ؟ فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين ‘ لو قطعت بالسيف إرباً إرباً، وأضرمت لي النار وألقيت فيها ‘ لآثرتُ ذلك على البراءة منك .
وهكذا حصل له فقال (عليه السلام):
وفِّقتَ لكل خير يا حِجر ، جزاك الله عن أهلِ بيتِ نبيِّك ‘ ثم قال هل من شربة لبن؟ فأتوه بلبن فشربَه كلُه، فذكر ابنَ ملجم وأنه لم يترك له من اللبن شيئاً فقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً ،
أعلموا أني شربتُ الجميع، ولم أُبقِ لأسيركُم شيئاً من هذا
ألا وإنهُ آخرُ رزقي من الدنيا !
فبالله عليك ـ يا بني ـ إلا ما سقيتَه مثل ما شربت ،
فحمل الأمام الحسن إليه اللبن فشرب
والناس مجتمعون على باب الإمام ... فخرج إليهم الإمام الحسن وأمرهم عن قول أبيه بالانصراف، فانصرف الناس
وكان الأصبغ بن نباته جالساً فلم ينصرف، فخرج الإمام الحسن مرة اخرى وقال: يا أصبغ أما سمعت قولي عن أمير المؤمنين؟
قال بلى، ولكني رأيتُ حاله ، فأحببت أن أنظر إليه واسمع منه حديثاً، فاستأذِن لي رَحِمك الله ..