الثورة
كانت سياسة الحجاج أن يشغل المسلمين بالمعارك على الحدود ، ليربح أحد شيئين الاستيلاء على أراضي البلدان المجاورة و نهب ممتلكاتها ، أو قتل المسلمين و التخلص منهم .
لهذا ما أن تنتهي معركة و ينتصر المسلمون حتى يرسل أوامر جديدة بالتوغل أكثر فأكثر .
ذات يوم أرسل الحجاج عبد الرحمن الأشعث على رأس جيش كبير لقتال " رتبيل " ملك الترك ، فانتصر المسلمون و أرسل عبد الرحمن إلى الحجاج يخبره أنه يستطلع الأراضي المفتوحة و انّه أوقف الحرب من أجل استراحة المقاتلين .
غير أن الحجاج بعث إليه برسالة انتقده فيها و طلب منه استئناف الحرب و التوغل أكثر في بلاد الترك .
أدرك عبد الرحمن أهداف الحجاج الدنيئة ، فأخبر الجنود بذلك .
كان المسلمون يكرهون الحجاج لظلمه و يكرهون عبد الملك لأنه سلّط الحجاج عليهم .
عندما أعلن عبد الرحمن الثورة استجاب له جميع الجنود ، و أعلنوا الثورة على الحجاج و على عبد الملك بن مروان و هكذا عاد عبد الرحمن إلى العراق للقضاء على الظلم ، و في الطريق كان الناس يلتحقون بجيش عبد الرحمن بن الأشعث .
كتيبة القرّاء
كان قرّاء القرآن آنذاك يعدّون مراجع للمسلمين في علم التفسير ، و في علوم القرآن الاُخرى ، و كان الناس يُجِلُّونهم و يعظمونهم ، و لكثرة من انضم إلى جيش عبد الرحمن من القرّاء فقد شكلوا كتبية خاصة بهم سمّيت بـ ( كتيبة القرّاء ) ، و كان كميل بن زياد قائداً لتلك الكتيبة .
حرّر الثائرون مناطق و بلاداً شاسعة من ظلم الحجاج و عبد الملك ، من بينها سجستان ( افغانستان ) و كرمان ( في ايران ) و البصرة ، و فارس ( في ايران ) و الكوفة .
خاض جيش عبد الرحمن سلسلة من المعارك الضارية و انتصر فيها .
معركة دير الجماجم
خاف عبد الملك من هذه الثورة الكبير فأراد أن يخدع الناس فقال : سوف أطرد الحجاج من منصبه إذا ألقى الثائرون السلاح .
كان المسلمون يعرفون أن أساس المصائب هو من عبد الملك الذي عيّن الحجاج و غيره من الظالمين على بلاد الإسلام . لهذا رفضوا اقتراح عبد الملك و طلبوا منه التنازل عن الحكم .
أرسل عبد الملك جيشاً كبيراً لمساعدة الحجاج ، و التقى الجيشان بموضع قرب الكوفة يدعى " دير الجماجم " و دارت رحى معركة كبيرة ، انتصر فيها الحجاج .
فرّ عبد الرحمن بن الأشعث إلى بلاد الترك ، كما أُلقي القبض على الكثير من الثائرين و تمّ اعدامهم .
كان الشهيد كميل بن زياد قائد كتيبة القرّاء قد اختفى مدّة من الزمن و لكنّه عندما رأى حلّ بقومه من العذاب بسببه نفسه إلى الحجاج فأمر بإعدامه .
إلى مكة
هرب سعيد بن جبير إلى مكة ليعيش هناك ، فاختار وادياً قريباً من مكة حتى لا يعرفه أحد .
كان جواسيس الحجاج يبحثون عنه في كل مكان ، و كان عبد الملك أكثر حقداً على سعيد من الحجاج ، لهذا أرسل مبعوثه الخاص خالد بن عبد الله القسري يبلغ أهل مكة برسالته .
وصل خالد بن عبد الله القسري إلى مكة و كان الوالي عليها محمد بن مسلمة فقطع خطاب الوالي و صعد المنبر .
أخرج طوماراً ( رسالة ) مختوماً بختم عبد الملك و فتحه ثم قرأ رسالة عبد الملك إلى أهل مكة .
من عبد الملك بن مروان إلى أهل مكة . أما بعد فانّي قد ولّيت عليكم خالد بن عبد الله القسري فاسمعوا له و أطيعوا ، و لا يجعلنّ امرؤ على نفسه سبيلاً فانّما هو القتل لا غير ، و قد برئت الذمة من رجل آوى سعيد بن جبير و السلام .
و معنى الرسالة أن أي شخص يقدّم مساعدة لسعيد بن جبير فهو محكوم بالإعدام .
و بعد أن قرأ رسالة عبد الملك صاح خالد بعصبية :
ـ لا أجده في دار أحد إلاّ قتلته و هدمت داره و دور جيرانه .
ثم حدد مهلة تبلغ ثلاثة أيام فقط لتسليم سعيد بن جبير .
في الوادي
كان سعيد يعرف ان الذي يقدّم له عوناً فهو محكوم بالقتل ، لهذا لم يطلب مساعدة من أحد ، بل أخذ أُسرته الصغيرة و سكن في أحد الأودية القريبة من مكة .
و ذات يوم اكتشف أحد الجواسيس مكان سعيد بن جبير فأسرع ليخبر الأمير خالد بن عبد الله القسري .
أصدر حاكم مكة أمراً بإلقاء القبض على سعيد بن جبير .
انطلق بعض الفرسان المسلّحين إلى الوادي ، فشاهدوا خيمة صغيرة بين الصخور .
كان سعيد بن جبير يصلّي ، عندما ترجّل الفرسان عن خيولهم و اقتربوا من الخيمة .
شاهد ابن سعيد الفرسان المسلّحين فأدرك انّهم جاءوا لاعتقال ابيه .
بكى الولد من أجل أبيه ، فقال الأب :
ـ لماذا تبكي يا ولدي ، لقد عشت سبعاً و خمسين سنة ، و هذا عمرٌ طويل .
ودّع الأب ابنه بعد أن أوصاه بالصبر و التحمّل .
تقدّم سعيد بن جبير بثبات إلى قائد الفرسان ، و سلّم نفسه .
تأثر القائد بشخصية سعيد ، تأثر لمنظره و هو يصلّي لله في تلك الصحراء ، و تأثر له و هو يودّع إبنه الوداع الأخير .
قال القائد :
ـ لقد كلّفني الأمير بإلقاء القبض عليك ، و أعوذ بالله من ذلك فاهرب إلى أي بلد تريد و أنا معك .
سأل سعيد قائد الفرسان :
ـ ألك أُسرة و عيال ؟
أجاب القائد :
ـ نعم .
قال سعيد :
ـ أفلا تخاف عليهم من القتل و انتقام الأمير منهم ؟
قال القائد :
ـ أتركهم في رعاية الله .
رفض سعيد فكرة الفرار حتى لا ينتقم الحاكم من الناس الأبرياء ، فسلّم نفسه .
الكعبة
كان أمير مكة مسنداً ظهره إلى الكعبة الشريفة ، و ينتظر عودة الشرطة .
جاء الشرطة بسعيد بن جبير . أمر خالد بن عبد الله القسري أمير مكة بشّد يديه إلى رقبته .
فقال رجل من أهل الشام :
ـ أيها الأمير أعف عنه و لا ترسله إلى الحجاج فيقتله ، انه رجل صالح فتقرّب إلى الله بحقن دمه ، لعل الله يرضى عنك .
قال الأمير :
ـ و الله لو علمت ان عبد الملك لا يرضى عني إلاّ بهدم الكعبة لهدمتها حجراً حجراً حتى يرضى عني .
هكذا كان الأمراء الذين عيّنهم عبد الملك و سلّطهم على المسلمين .
كانوا سفّاحين ظالمين لا يفكّرون بمرضاة الله بل بمرضاة عبد الملك . لهذا ثار سعيد بن جبير و غيره من المؤمنين .
واسط
بَنَى الحجاج مدينة جديدة بين الكوفة والبصرة هي مدينة واسط ، و بنى في وسطها قصراً كبيراً له و لأعوانه ، و بنى سجناً كبيراً يعذّب فيه الناس الأبرياء ، كان في سجنه آلاف الرجال و آلاف النساء و الأطفال .
كان الحجاج جالساً في قصره الكبير و حوله الحرّاس و معه طبيب نصراي اسمه " تياذوق " . و كان الحجاج يحب أن يشاهد بنفسه قتل الناس و ينظر إلى دمائهم و هي تنزف .
لهذا عندما أُدخل سعيد بن جبير ، كان كلّ شئ جاهزاً . فالجلاّد كان واقفاً ينتظر الإشارة .
دخل سعيد بن جبير في القصر المملوء برائحة الدم . لم يشعر سعيد بالخوف لأنّه كان مؤمناً بالله و اليوم الآخر .
سأل الحجاج عن اسمه فقال :
ـ سعيد بن جبير .
فقال الحجاج :
ـ بل شقيّ بن كسير .
قال سعيد :
ـ امي أعلم باسمي و اسم أبي .
ـ شَقيتَ و شقيتْ اُمك .
ـ لا يعلم الغيب إلاّ الله .
سكت الحجاج ثم صفق بيده .
فجاء بعض الهزليين و قاموا بحركات مضحكة .
قهقه الحجاج بصوت عالٍ و ضحك الحاضرون ، غير ان سعيد ظلّ ساكتاً .
سأل الحجاج :
ـ لماذا لا تضحك ؟
فقال سعيد بحزن :
ـ لم أرَ شيئاً يضحكني ، و كيف يضحك مخلوق من طين و الطين تأكله النار .
قال الحجاج :
ـ فأنا أضحك .
ـ كذلك خَلَقَنا الله أطواراً !
أمر الحجاج أن يحضروا له الخزانة .
أحضر الحرّاس صندوقاً كبيراً مليئاً بالذهب و الفضة و الجواهر .
راح الحجاج يصبّ أمام سعيد قطع النقد الذهبية و الفضية و الجواهر الثمينة .
سأل الحجاج :
ـ ما رأيك بهذا ؟
فقال سعيد و هو يلقنه درساً :
هذا حسن إن قمت بشرطه .
سأل الحجاج :
ـ و ما هو شرطه .
ـ تشتري به الأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة .
مرّة أُخرى سكت الحجاج أمام منطق سعيد .
التفت الحجاج إلى الجلاّد و أشار بقتله .
تقدّم الجلاّد نحو التابعي الجليل .
توجّه سعيد نحو الكعبة بقلبٍ مطمئن . طلب أن يصلي ركعتين قبل إعدامه ، توجّه نحو الكعبة و قال :
ـ وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفاً مسلماً و ما أنا من المشركين .
صاح الحجاج :
ـ احرفوه عن القبلة .
دفعه الجلاّد إلى جهة اُخرى ، فقال سعيد :
ـ أينما تولّوا فثم وجه الله .
صاح الحجاج :
ـ اكبّوه إلى الأرض .
فقال سعيد :
ـ منها خلقناكم و فيها نعيدكم و منها نخرجكم تارةً اُخرى .
صرخ الحجاج بحقد :
اضربوا عنقه .
و هنا توجّه سعيد إلى السماء و دعا الله عزَّ و جَلَّ قائلاً :
ـ اللهم لا تترك له ظلمي و اطلبه بدمي و اجعلني آخر قتيل يقتله من اُمة محمد ( صلى الله عليه وآله ) .
و كان هذا الدعاء الوحيد الذي دعا به سعيد على إنسان بعد وصية والدته له .
هوى الجلاّد بسيفه الغادر علىعنق سعيد فسقط الرأس فوق بلاط القصر .
و هنا حدث أمر عجيب . عندما نطق الرأس قائلاً :
ـ لا اله إلاّ الله .
راح الحجّاج ينظر إلى تدفّق الدماء بلا انقطاع فتعجّب من كثرة الدم .
التفت إلى الطبيب تياذوق ، و سأله عن السرّ في ذلك .
فقال الطبيب :
ـ ان كل الذين قتلتهم كانوا خائفين ، و كان الدم يتجمّد في عروقهم ، فلا ينزف منه إلاّ القيل .
امّا سعيد بن جبير ، فلم يكن خائفاً ، و ظلّ قلبه ينبض بشكل طبيعي .
لقد كان قلب سعيد مملوءاً بالايمان ، و لهذا لم يخف من الموت ، فرحل إلى الله شهيداً و كان سعيداً كما سمّاه أبواه .
مصير الجلاّد
اختلّ عقل الحجاج بعد هذه الجريمة ، و كان يرى كوابيس مخيفة في نومه فكان يهبّ من نومه مرعوباً و يصيح :
ـ مالي و لسعيد بن جبير .
لم يعيش الحجاج بعد هذه الجريمة سوى خمسة عشر يوماً ثم مات .
لقد استجاب الله دعا ذلك الشهيد ، فكان آخر من قتله الحجاج في حياته السوداء الحافلة بالجرائم و الظلم .
و عندما فتحت أبواب السجون وجدوا فيها خمسين ألف رجل و ثلاثين ألف امرأة و طفل .
لقد مات الجلاّد و الضحية في نفس العام ، و أضحت قصّتهما عبرة للأجيال . فالتاريخ يذكر سعيد بإجلال ، امّا الحجاج فلا يُذكر إلاّ باللعنة مدى الأيام
المفضلات