ميثـــم التــمـــــار
مضى على استشهاد الإمام علي ( عليه السَّلام ) في محراب المسجد عشرون عاماً . و الكوفة الآن في أواخر سنة 60 هجرية .
كان الوقت فجراً ، جاء ميثم كعادته إلى جذع نخلة ، رش الأرض حوله بالماء فانبعثت رائحة الأرض الطيبة . صلّى ركعتين ثم أسند ظهره إلى جذع النخلة .
منذ أكثر من عشرين سنة و هو يزور هذه النخلة ، لم تكن هكذا مجرّد جذع يابس ، لقد كانت قبل عشرين سنة نخلة باسقة تهب الرطب و التمر و الظلال .
و تمرّ الأيام و الشهور و الأعوام و ميثم يزورها في كلّ مرّة فيصلّي عندها ركعتين و يخاطبها قائلاً :
ـ أنبتك الله من أجلي و غذاني من أجلك .
كان ميثم يحبّ هذه النخلة ، و كان يسقيها عندما كانت خضراء ، ثم جاء يوم ماتت فيه النخلة و أصبحت جذعاً يابساً ، ثم قطع الجذع من أعلاه و أصبحت تلك النخلة الباسقة مجرّد جذع قصير .
و لكن ميثم كان يداوم على زيارة النخلة كلّما سنحت له الفرصة ، فمن هو ميثم هذا ؟ و ما هي قصّته مع جذع النخلة ؟
أصله
ولد ميثم التمار في " النهروان " بالقرب من مدينة الكوفة و أصله من فارس و كان في صباه غلاماً لامرأة من " بني أسد " .
و ذات يوم اشتراه الإمام علي ( عليه السَّلام ) و أعتقه أي أعاد له حرّيته .
كان الإمام علي منذ كان شابّاً يعمل بيده ، يحفر الآبار و العيون ويسقي البساتين فإذا توفر لديه بعض المال اشترى به عبداً أو جارية ثم يهبهما الحرّية .
عندما استعاد ميثم حرّيته اتجه إلى سوق الكوفة و أصبح بائعاً للتمر .
عاش ميثم حياة بسيطة . شيء واحد كان ينمو في قلبه : إيمانه بالإسلام و حبّه لعلي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) .
لقد علّمه الإمام أن الإسلام هو طريق الحريّة ، فإذا أراد المرء أن يحيا كريماً و يموت سعيداً فما عليه إلاّ أن يؤمن بالله و اليوم الآخر و لا يخشى أحداً إلاً الله .
و هكذا عاش ميثم . كان يبيع التمر في سوق الكوفة ، لا تهمّه مظاهر الحياة الزائفة .
و كان الإمام علي يحبّ ميثماً لصفاء روحه و طهارة نفسه ، لهذا كان يقصده في دكانه في السوق و يتحدّث إليه و يعلّمه . و كان ميثم يُصغي إلى أحاديث الإمام لأنّه يعرف أن عليّاً هو باب مدينة علم النبي ( صلى الله عليه وآله ) و قد قال سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) : أنا مدينة العلم و علي بابها .
الاسم الحقيقي
لو لا ذلك اللقاء لظلّ ميثم غلاماً عند تلك المرأة الأسدية و لكان اسمه " سالماً ".
عندما ما اشتراه الإمام من المرأة سأله عن اسمه فقال :
ـ اسمي سالم .
فقال الإمام :
ـ لقد أخبرني رسول الله ان اسمك عند العجم ميثم .
فقال ميثم بدهشة لأن أحداً لا يعرف اسمه الحقيقي :
ـ صدق الله و رسوله .
و منذ ذلك الوقت و ميثم لا يفارق الإمام .
لقد وجد التلميذ اُستاذاً عظيماً تربّى في أحضان الرسالة .
في الصحراء
من يخرج إلى الصحراء ليلاً يشاهد السماء زاخرة بالنجوم فيمتلىء قلبه خشوعاً لله .
لهذا كان الإمام علي يخرج إلى الصحراء ليلاً يعبد الله و يدعو ، و يصطحب معه في بعض الأحيان رجلاً من أصحابه فيفيض عليه من علوم الوحي ما شاء الله .
كان يصطحب معه ميثماً إلى الصحراء فيتحدّث إليه و يعلّمه و يخبره بما سيحصل في مستقبل الأيام ، و الإمام لا يعلم الغيب و لكنه يحفظ ما سمعه من سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) الذي أخبره بأشياء كثيرة تحصل في المستقبل .
و كان ميثم يصغي إلى كلّ ما يسمعه فإذا قام الإمام للصلاة صلّى خلفه و يصغي بخشوع إلى مناجاة الإمام فتنطبع في فؤاده الحروف و تضيء في نفسه الكلمات .
في دكان التمار
كان الإمام يقصد السوق للقاء ميثم التمار ، فيجلس معه و يتحدّث إليه ، و كان بعض الناس يمرّون فلا يعرفون الخليفة ، وكان بعضهم يعرفون الإمام فيتعجبون كيف يجلس الخليفة مع رجل يبيع التمر !!
و ذات يوم ذهب الإمام إلى دكان التمر في السوق و جلس مع ميثم .
عرضت لميثم التمار حاجة فاستأذن الإمام لقضائها و غادر الدكان .
ظلّ الإمام في الدكان ليبيع التمر . و في الأثناء جاء رجل و اشترى تمراً بأربعة دراهم و مضى .
عندما جاء ميثم و رأى الدراهم تعجب لأن الدراهم كانت مزيّفة .
ابتسم الإمام و قال :
ـ سوف يعود صاحب الدراهم .
تعجّب ميثم مرّة اُخرى ، إذ كيف سيعود بعدما اشترى تمراً جيداً بدراهم مزيّفة.
و بعد ساعة جاء صاحب الدراهم و قال بانزعاج :
ـ لا أُريد هذا التمر انّه مرّ كالحنظل . . كيف يكون التمر مرّاً ؟!
فقال الإمام :
ـ كما تكون دراهمك مزيفة .
فتح صاحب الدراهم فمه دهشة ، و أخذ دراهمه و ابتعد مسرعاً .
حبر الأمّة
كان ميثم عالماً كبيراً ، فلقد تلقى علمه عن الإمام علي ، قال يوماً لحبر الأمّة عبد الله بن عباس :
ـ يا بن عباس سلني ما شئت من تفسير القرآن ، فلقد تعلمت تنزيله من أمير المؤمنين و علّمني تأويله ( أي تفسيره و معرفة باطنه ) .
فكان ابن عباس يجلس كما يجلس التلميذ أمام معلمه يتعلّم دروس التفسير و علم التأويل .
كان ميثم التمار عندما يرى عمرو بن حريث و هو من زعماء أهل الكوفة يقول له :
ـ سوف أصبح جارك فأحسن جواري .
فيتعجب عمرو و يقول :
أتريد شراء دار ابن مسعود أم دار ابن الحكم ؟
و لكن ميثم كان يسكت ، و يبقى عمرو بن حريث في حيرة ، ترى ماذا يقصد ميثم بذلك ؟
و تمرّ الأيام و الأعوام ، ويتعاقب على الكوفة حكّام و ولاة ظالمين يسومون الناس العذاب .
المفضلات