إقامة طيبة


و تمرّ الأيام و الشهور و الأعوام ، و جعفر و من معه من المسلمين يسمعون أخباراً حلوة فيفرحون و أخباراً مرّة فيحزنون .فرحوا بانتهاء الحصار الذي فرضته قريش على بني هاشم ، و حزنوا لوفاة أبي طالب حامي الرسول و وفاة خديجة زوجة سيّدنا محمّد التي وقفت إلى جانبه و أنفقت كلّ ثروتها من أجل الإسلام .
ثم غمرتهم الفرحة الكبرى بهجرة سيدنا محمد إلى المدينة و قيام أوّل دولة إسلامية ترتفع فيها راية التوحيد خفّاقة .

و وصلتهم أنباء معركة بدر الفاصلة و انتصار الإسلام في حربه مع الشرك و الأوثان .

و سمعوا أخبار معركة " اُحد " فحزنوا من أجل سيدنا محمّد و ما أصابه من الجروح ثم توالت أخبار الانتصارات الإسلامية على المشركين و حلفائهم من اليهود .

و كم كانت فرحة المسلمين كبيرة و هم يرون سيّدنا محمّداً يبعث برسائله إلى ملوك العالم .

رسالة إلى هرقل إمبراطور الروم . و رسالة إلى كسرى ملك فارس .

و رسالة إلى المقوقس عظيم مصر .



رسالة إلى النجاشي


و وصل الحبشة مبعوث من قِبل سيّدنا محمّد هو عمرة بن اُمية الضمري يحمل رسالة نبيّ الإسلام ، و هذا نصّها :

بسم الله الرحمن الرحيم

من محمّد رسول الله

إلى النجاشي ملك الحبشة

سلم أنت " أي أنت سالم " .

فإني أحمد الله الذي لا إله إلاّ هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن . و أشهد أن عيسى بن مريم روح الله و كلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة . . حملته من روحه كما خلق آدم بيده .

و إني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له و الموالاة على طاعته ، و أن تتبعني و توقن بالذي جاءني ، فانّي رسول الله ، و إني أدعوك و جنودك إلى الله عَزَّ و جَلَّ ، و قد بلغت و نصحت ، فاقبلوا نصيحتي ، و السلام على من اتّبع الهدى .

و انطلق جعفر مع مبعوث سيّدنا محمّد إلى قصر النجاشي و سلما على ملك الحبشة الذي تسلّم رسالة النبيّ باحترام . و عندما اطّلع على مضمون الرسالة ، نزل النجاشي عن العرش و جلس على الأرض تواضعاً و احتراماً لرسول الله سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

وضع الرسالة على عينيه مبالغة في التعبير عن الاحترام ، ثم أمر بأن يحضروا له صندوقاً مصنوعاً من العاج فوضع الرسالة فيه و قال :

ـ ستبقى الحبشة بخير ما ظلّت هذه الرسالة محفوظة عند أهلها .

و تقدّم مبعوث النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الملك و قدّم إليه رسالة اُخرى يطلب فيها سيّدنا محمّد بأن يسمح للمهاجرين و على رأسهم جعفر بن أبي طالب بالعودة فقد أصبح لهم وطن .

غمرت الفرحة المسلمين بقرب العودة إلى الديار و الأحبّة و شكروا للنجاشي حسن ضيافته .

أمر النجاشي بإعداد السفن التي ستقلّ المهاجرين إلى أرض الحجاز ، و بعث معهم ممثلاً يحمل هدايا الحبشة و تحيات ملكها إلى سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

و ارتفعت الأشرعة استعداداً للسفر ، و بدأت رحلة العودة و المسلمون فرحون بنصر الله .



فتح خيبر


في المدينة المنوّرة كان جيش الإسلام يستعد للزحف نحو حصون خيبر اليهودية .

كان يهود خيبر يحيكون المؤامرات تلو المؤامرات لإطفاء نور الإسلام ، فكانوا يحرّضون القبائل العربية لغزو المدينة و القضاء على الدولة الإسلامية الفتية .

من أجل هذا قرّر سيدنا محمد استئصال خطرهم لينعم الناس بسلام الإيمان و الإسلام .

وصلت قوّات الإسلام الطريق الذي يربط بين قبائل غطفان و حصون خيبر لقطع الإمدادات على العدوّ و توجيه ضربة عسكرية مفاجئة .

بلغ تعداد الجيش الإسلامي ألفاً و أربعمائة مقاتل بينهم مائتا فارس ، و كان للمرأة المسلمة شرف الحضور في هذه المعركة .

كانت راية العقاب تخفق فوق سيدنا محمّد ، و جيش الإسلام يزحف باتجاه الحصون .

و في الفجر فوجئ اليهود بالمسلمين يضربون عليهم الحصار الكامل .

قاد بعض الصحابة هجمات عنيفة لم تسفر عن شيء يسخرون من سيدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) و من جنوده .

عند ذلك هتف النبي قائلاً :

لأعطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله و رسوله و يحبّه الله و رسوله .

و في الصباح تمنّى بعض الصحابة أن يكون الراية من نصيبه ، غير أن سيدنا محمدا ( صلى الله عليه وآله ) سأل عن علي و هو أخو جعفر بن أبي طالب .

هزّ عليّ الراية بقوّة و تقدّم باتجاه الحصون اليهودية ، و عندما قتل عليّ مرحباً بطل اليهود شعروا بالخوف ، و سرعان ما تساقطت حصون خيبر الواحد تلو الآخر .

و غمرت الفرحة قلب سيدنا محمد و المسلمين و شكروا الله عز وجل أن نصرهم على أعدائهم .

و في تلك الفترة وصل مهاجرو الحبشة يتقدّمهم جعفر بن أبي طالب و تضاعفت فرحة سيدنا محمد حتى قال و البسمة تضيء وجهه :

ـ ما أدري بأيّهما أشدّ سروراً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر .

و عانق سيدنا محمد ابن عمه جعفر و قبّل جبينه و قال : ان لجعفر و أصحابه هجرتين ، هجرة للحبشة و هجرة للمدينة المنوّرة .



معركة مؤتة


كان سيدنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد بعث برسول إلى حاكم بُصرى و هي مدينة من مدن الشام ، و في أرض " موتة " أُلقى القبض عليه و سيق للإعدام ، و كان هذا العمل منافياً للأخلاق الإنسانية .

و شعر النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) بالحزن و أمر الاستعداد لحملة تأديبية .

و في شهر جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة المباركة خرج ثلاثة آلاف مقاتل و وصيّة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) تضيء طريقهم :

أوصيكم بتقوى الله . . اغزوا باسم الله ، فقاتلوا عدوّ الله و عدوّكم . . و ستجدون رجالاً في الصوامع معتزلين فلا تتعرضوا لهم ، و لا تقتلوا امرأة و لا صغيراً . . و لا تقطعوا شجرة . . و لا تهدموّا بناءً .

كان سيدنا محمّد قد عيّن زيد بن حارثة قائداً للجيش الإسلامي فان استشهد فالقائد جعفر بن أبي طالب فإن استشهد فالقائد الثالث عبد الله بن رواحة .

وصلت أنباء الزحف الإسلامي إلى الروم فأعدّوا جيشهم من الرومان و القبائل العربية الموالية لهم حتى بلغ عدد قواتهم مئتي ألف جندي ، و تحشّدت الجيوش في أرض البلقاء .

و قد حدث أوّل اشتباك في قرية " مشارف " في تخوم البلقاء و ظهر تفوّق الروم الهائل .

كان " هرقل " إمبراطور الروم قد أسند القيادة العامة إلى أخيه " تيودور " .

اختار الجيش الإسلامي القليل العدد أرض مؤتة لتكون مسرحاً للعمليات الحربية لتضاريس الأرض المناسبة التي تساعد المسلمين على التحصّن و التعويض عن تفوّق الروم العددي الساحق .

استعدّ زيد بن حارثة للهجوم ايذاناً ببدء المعركة . هزّ راية جيش الإسلام بقوّة و اندفع نحو قلب العدوّ ، و قد ألهب اندفاعه الحماس في القوات الإسلامية .

و حدثت معارك ضارية و قد مزّقت الرماح زيداً فهوى إلى الأرض شهيداً يلوّن الأرض بلون الشفق .

و قبل أن تسقط الراية على الأرض اندفع جعفر بن أبي طالب فامسك بها بقوّة و راح يقاتل بضراوة و ارتفع صوته وسط ضجيج المعارك مبشراً بالنصر أو الشهادة التي هي أُمنية المؤمنين :

يا حبذا الجنّة و اقترابها *** طيبة و بارداً شرابها

و الروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

علي ان لاقيتها ضرابها

و لكي يعلن تصميمه على القتال حتى الموت فقد قفز من فوق فرسه الشقراء ، و هو أول من فعل ذلك في تاريخ الإسلام .

ظلّ جعفر كالجبل يتلقى الضربات بثبات يبهر الأعداء .

فكثّفوا هجومهم نحوه و هوى سيف على يده اليمنى فطارت .

أخذ جعفر راية الإسلام بيده اليسرى و راح يقاتل و هوى سيف آخر على يده فقطعها . و هنا ضمّ جعفر الراية بعضديه إلى صدره لكي تستمر المقاومة .

و في تلك اللحظات الرهيبة جاءته ضربة اُخرى فهوى جعفر معها نحو الأرض شهيداً .

و اندفع عبد الله بن رواحة القائد الثالث نحو الراية لتخفق مرّة اُخرى في سماء المعركة .

و اندفع القائد الجديد يقاتل ببسالة في صدّ هجمات الروم التي كانت تندفع كالأمواج .

و هوى عبد الله على الأرض شهيداً ، فأخذ الراية ثابت بن الأرقم و هتف بالمسلمين لانتخاب قائد جديد . و تمّ انتخاب خالد بن الوليد .

بسرعة فائقة فكّر القائد الجدبد أن أفضل ما يقوم به هو الإنسحاب فقام بعمليات تكتيكية أوهمت العدوّ .

و عندما خيّم الظلام بدأ انسحاب الجيش الإسلامي بسلام و غاب في قلب الصحراء .

و في الصباح فوجئ الروم بانسحاب المسلمين و تهيّبوا التوغل في الصحراء كما إن بسالة القوّات الإسلامية بالرغم من عددهم القليل قد قذفت في قلوبهم الخوف ففضلوا العودة .



و في المدينة


هبط جبريل على سيدنا محمد يخبره بأنباء المعركة ، و صعد رسول الله المنبر و خطب المسلمين قائلاً :

ـ أخذ الراية زيد فقاتل حتى قتل شهيداً ، ثم أخذ جعفر فقاتل حتى قُتل شهيداً ، ثم أخذ الراية عبد الله فقاتل حتى قُتل شهيداً .

و انطلق سيدنا محمد ليعزّي أسماء زوجة الشهيد العظيم .

دخل النبي الكريم فوجد أولاد جعفر جالسين و كانت اُمّهم قد فرغت من ترجيل شعورهم .

قبّل النبيّ أولاد جعفر و أجلسهم في حضنه الدافئ ، و دمعت عيناه .

شعرت أسماء بأن هناك شيئاً حصل لزوجها فقالت :

ـ أبَلغك يا رسول الله عن جعفر و أصحابه شيء ؟

أجاب النبيّ بحزن : ـ نعم أُصيبوا هذا اليوم .

و غادر النبيّ المنزل و أوصى ابنته فاطمة أن تصنع لهم طعاماً لأنّهم في مصيبة .



ذو الجناحين


و عندما عاد جنود الإسلام من مؤتة راحوا يحكون لأهليهم قصص البطولات عن جعفر بن أبي طالب و إخوانه من الشهداء .

قال أحدهم : لقد وجدنا في جسمه تسعين جرحاً .

و قال آخر : لقد رأيته عندما قطعت يده اليمنى .

و قال ثالث : و أنا رأيته عندما قطعت يده اليسرى ، ثم هوى على الأرض و جرحه تنزف دماً .

و قال سيدنا محمّد : لقد أخبرني جبرئيل إن الله عز وجل قد وهب جعفر جناحين يطير بهما في الجنّة .

و في تلك الليلة ، أوى أولاد جعفر إلى النوم ، كانوا ينظرون السماء المليئة بالنجوم و يحلمون بأبيهم الشهيد الذي يطير بجناحين كالملائكة .