عمار بن ياسر
كان الناس في مكّة يعيشون في جهل و ظلام .
يظلم القويّ الضعيف و يسلبه حقه فلا ينصره أحد ، و كان زعماء قبيلة قريش يشتغلون في التجارة ، فكانت لهم رحلتان تجاريتان كلّ عام .
في فصل الصيف تذهب قوافلهم إلى الشام ، و في فصل الشتاء يتجهون إلى اليمن .

و أهل مكّة فيهم فقراء و فيهم أثرياء ، فالأثرياء يظلمون الفقراء و يقهرونهم ، و بعض الفقراء يعيشون عبيداً لا يملكون شيئاً حتى حرّيتهم .

و في ذلك الزمان عاش سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) ، كان يذهب إلى جبل حراء ، يفكّر في مصير الناس ، و يفكر في قومه و في عبادتهم للأصنام و الأوثان .

و ذات يوم و عندما بلغ سيّدنا محمّد من العمر أربعين سنة هبط عليه الوحي ، يُبشِّره بالإسلام رسالة الله سبحانه إلى الناس جميعاً .

و هبط سيّدنا محمّد من الجبل و هو يحمل معه رسالة الإسلام لكي يعيش الناس إخواناً متحابين .

أصغى الفقراء و المظلومون إلى نداء الإسلام فآمنوا به و امتلأت قلوبهم بحبّ الإسلام .

و سمع الظالمون من تجّار قريش و أثريائها فحقدوا على سيدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و راحوا يكيدون للإسلام و المسلمين .

كان أبو جهل أكثر المشركين حقداً و كان يؤذي سيّدنا محمّداً ( صلى الله عليه و آله ) كثيراً .


دار الأرقم

كان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) يجتمع بالمؤمنين سرّاً في دار الأرقم ، حتى لا ينكشف أمرهم فيتعرّضون لانتقام أبي جهل و أبي سفيان و غيرهما من المشركين .

و ذات يوم جاء عمّار بن ياسر فوجد رجلاً واقفاً عند الباب فقال :

ـ ماذا تفعل هنا يا صهيب ؟

أجاب صهيب :

ـ جئت أسمع كلام محمّد . . و أنت ؟

قال عمّار :

ـ و أنا أيضاًَ جئت أسمع كلامه .

و دخل عمّار و صهيب ، و راحا يصغيان بخشوع إلى كلمات الله و آيات القرآن الكريم .

شعر عمّار بالإيمان يملأ قلبه ، كما تمتلئ السواقي بماء المطر .

و عندما أراد عمّار و صهيب أن يخرجا قال سيدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) :

ـ امكثا هنا إلى المساء .

كان رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) يخشى عليهما من انتقام قريش .

انتظر عمّار حتى حلّ الظلام فخرج من دار الأرقم و أسرع نحو منزله .

كانت اُمّه تنتظر عودته بقلق ، و كذلك كان أبوه هو الآخر ينتظر عودته .

عندما دخل عمّار ، عمّت الفرحة البيت الصغير . و راح عمّار يحدّث والديه عن الإسلام دين الله .


آل ياسر

ينتمي عمّار في نسبه إلى قبائل اليمن ، و لكن ما الذي جاء به إلى مكّة ؟

جاء والده ( ياسر ) مع أخويه الحارث و مالك يبحثون عن أخيهم الرابع الذي انقطعت أخباره .

بحثوا عنه في كلّ مكان ، ثم جاءوا إلى مكّة للبحث عنه فلم يعثروا على أثر له .

أراد الحارث و مالك العودة إلى اليمن ، و لكن ياسراً فضّل البقاء في مكّة قرب بيت الله الحرام .

لجأ ياسر إلى قبيلة بني مخزوم و أصبح كأحد أفرادها و تزوّج جارية اسمها سميّة .

و تمرّ الأيام و تنجب سميّة صبياً فسمّاه أبوه عمّاراً .



عمّار

ولد عمار بن ياسر قبل عام الفيل بأربع سنين أي قبل ولادة سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) الذي وُلد في عام الفيل .

و عندما أصبح شاباً ، تعرّف على سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) و أصبح صديقاً له .

كان يحب سيدنا محمّداً ( صلى الله عليه و آله ) لأخلاقه و أمانته و إنسانيته .

و ذات يوم كان يتمشى مع سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) بين جبل الصفا و جبل المروة و كان عمره تسعاً و عشرين سنة و عمر سيدنا محمد خمساً و عشرين سنة ، جاءت هالة أخت خديجة بنت خويلد و تحدّث مع عمار حول فكرة زواج سيدنا محمد ( صلى الله عليه و آله ) من خديجة ، و وافق سيدنا محمد حيث تمّ الزواج المبارك .

و عندما بعث الله سيدنا محمداً برسالة الإسلام آمن عمار و والده ياسر و اُمه سميّة .


الانتقام

سمع أبو جهل بإسلام عمار و والديه فجنّ جنونه .

قاد أبو جهل جماعة من المشركين و اتجهوا إلى منزل ياسر . كانت في أيديهم المشاعل فأحرقوا الدار و اقتيد ياسر و عمار و سمية إلى الصحراء خارج مكّة .

قيّدوهم بالسلاسل ، و بدأوا بتعذيبهم .

في البداية انهالوا عليهم بالسياط حتى سالت الدماء .

ثم جاءوا بمشاعل النار و راحوا يكوون أجسادهم .

و ظلّت هذه الأسرة الصغيرة المؤمنة ثابتة على إيمانها .

جاء أبو جهل بالصخور و وضعها فوق صدورهم ، كانوا يتنفسون بصعوبة و لكنّهم ظلوا على إيمانهم .

حان وقت الظهر و اشتدت حرارة الشمس فعاد أبو جهل و المشركون إلى مكة و تركوا الأسرة تحت أشعة الشمس الحارقة .

و في الأثناء مرّ سيدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و رآهم على هذه الحالة فبكى رحمة لهم و قال :

ـ صبراً يا آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة .

قالت سميّة و قد ملأ قلبها الإيمان :

ـ أشهد انّك رسول الله و أن وعدك الحقّ .

عاد الجلاّدون يتقدّمهم أبو جهل و بيده حربة طويلة و بدأ يعذّبهم بالحديد و النار .

فقد عمار و ياسر و سمية وعيهم ، فرشّوهم بالماء ، و عندما أفاقوا صاح أبو جهل بسمية :

ـ اذكري الآلهة بخير و محمداً بسوء .

بصقت سميّة في وجهه و قالت :

ـ بؤساً لك و لآلهتك .

شعر أبو جهل بالحقد ، فرفع الحربة عالياً و سدّد ضربة إلى بطنها و راح يمزّق جسمها بالحربة حتى قتلها ، فكانت سميّة أول شهيدة في تاريخ الإسلام .

و اتجه أبو جهل إلى ياسر و راح يركله بقدمه على بطنه حتى قتله و استشهد ياسر تحت التعذيب الوحشي .

رأى عمار ما حلّ بوالديه فبكى . و انهال عليه أبو جهل و المشركون بالسياط و أنواع العذاب ، و صاح أبو جهل :

ـ سوف أقتلك إذا لم تذكر آلهتنا بخير .

لم يتحمّل عمّار ذلك التعذيب الوحشي فقال :

ـ اعل هبل .

ذكر عمّار آلهتهم بخير لكي يكفّوا عن تعذيبه ، عندها حلّوا وثاقه و تركوه .

الإيمان في القلب

جاء عمّار إلى سيدنا محمّد يبكي ، لم يكن يبكي من أجل والديه و لا من أجل نفسه و ما رآه من عذاب ، جاء يبكي لأنه ذكر الأوثان بخير .

واسى رسول الله عمّاراً باستشهاد والديه ، و كان عمّار ما يزال يبكي قائلاً :

ـ لم يتركوني يا رسول الله حتى أكرهوني فذكرت آلهتهم بخير .

قال سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) و الرحمة تشعّ من عينيه :

ـ كيف تجد قلبك يا عمّار ؟

ـ قلبي مطمئن بالإيمان يا رسول الله .

قال النبي ( صلى الله عليه و آله ) :

ـ لا عليك يا عمّار . لقد أنزل الله فيك " إلاّ من أُكره و قلبه مطمئن بالإيمان " .


الهجرة

اشتدت محنة المسلمين في مكّة ، فأمر سيّدنا محمّد أصحابه بالهجرة إلى " يثرب " ، و هاجر عمّار مع مَن هاجر في سبيل الله .

و عندما هاجر سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) عمّت الفرحة المدينة المنوّرة و عاش المهاجرون مع إخوانهم الأنصار حياة طيبة تسودها المحبّة و التعاون و الاخاء .

كان أوّل شيء فكّر فيه رسول الله ( صلى الله عليه و آله ) هو بناء مسجد يعبد فيه المسلمون الله وحده ، و يكون رمزاً لعزة الإسلام و قلعة للاُمة الإسلامية .

شمّر المسلمون عن سواعدهم و راحوا يعملون بحماس لبناء مسجد النبيّ ( صلى الله عليه و آله ) .

كان بعضهم يحمل التراب ، و بعض يصنع الآجر ، و آخرون يحملون ما جفّ منه لبناء الجدران .

كان سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) يعمل مع أصحابه ، و كان عمّار يعمل بنشاط و قد غطّاه الغبار ، كان كلّ فرد من المسلمين يحمل لبنة ( طابوقة ) واحدة ، أما عمار فكان يحمل لبنتين ، فقال له سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) : لهم أجر و لك أجران .

و لكي يبثّ في قلوب إخوانه الحماس في العمل ، كان يردّد شعاراً حماسياً :

ـ لا يستوي من يعمّر المساجدا

يدأب فيها قائماً و قاعدا

و من يرى عن الغبار حائدا

كان بعض الصحابة يتحاشى الغبار ، فظنّ أن عمّار يعنيه بهذا الشعر .

جاء عثمان إلى عمّار و قال له مهدّداً :

ـ سوف أضرب أنفك بهذه العصا .

نظر عمّار إليه و لم يقل شيئاً .

سمع سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه و آله ) بذلك فتألم و جاء إلى عمّار و قال :

ـ إنّ عمّاراً جلدة ما بين عيني و أنفي .

مسح سيّدنا محمّد عن وجه عمّار الغبار ، فامتلأ قلب الصحابي الجليل حبّاً للنبي الكريم .


تابع >>