الانتصار


و بعد معارك ضارية تمكّن جيش الإمام من عقر الجمل فانهارت معنويات الجيش المقابل و فرّ المقاتلون من ساحة المعركة .

أصدر الإمام أمراً أوقف فيه العمليات الحربية ، و أمر بمعاملة عائشة بكلّ احترام و إعادتها إلى المدينة معزّزة مكرّمة .

أطلق الإمام الأسرى و أمر بمعالجة الجرحى و عفا عن الجميع .

و دخل مالك الأشتر و عمّار بن ياسر على عائشة فقالت :

ـ لقد كدت يا مالك أن تقتل ابن اختي .

أجاب مالك :

ـ نعم و لولا انّي كبير و كنت صائماً ثلاثة أيام لأرحت منه اُمّة محمّد ( صلى الله عليه وآله ) .

في الكوفة

و بعد أن أقام الإمام في البصرة أيّاماً عاد بجيشه قاصداً مدينة الكوفة .

كان مالك الأشتر في المعارك كالأسد يُقاتل بشجاعة لا نظير لها ، و لهذا كان الأعداء يخافون منه .

و لكنّه في الأيّام العادية كان يبدو كرجل فقير فهو يرتدي ثياباً بسيطة و يمشي بتواضع حتى أن أكثر الناس لا يعرفونه .

ذات يوم و عندما كان مالك يسير في الطريق ، كان أحد السفهاء يأكل تمراً و يرمي النوى هنا و هناك .

و عندما مرّ مالك أمامه ، رماه بنواة في ظهره و راح يضحك عليه .

فقال له رجل رآه :

ـ ماذا تفعل ؟! هل تعرف مَن هذا الرجل ؟

أجاب :

ـ كلاّ ، مَن هو ؟

ـ إنّه مالك الأشتر .

كان مالك الأشتر قد مضى في طريقه ، لأن المؤمن لا يهتم لما يفعله السفهاء من الناس ، و تذكّر ما كان يفعله المشركون بسيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) في مكّة عندما كانوا يلقون عليه التراب و القاذورات فلا يقول شيئاً .

دخل مالك المسجد و راح يصلّي لله و يستغفر لذلك الشخص الذي رماه بالنواة .

جاء الرجل مهرولاً و دخل المسجد و ألقى بنفسه على مالك يعتذر إليه و قال :

ـ اعتذر إليك ممّا فعلت فاقبل عذري .

أجاب مالك بابتسام :

ـ لا عليك يا أخي ، و الله ما دخلت المسجد إلاّ لكي أُصلّي و استغفر لك .



معركة صفين


كان الإمام يختار الصالحين من أهل التقوى و الإدارة و الحزم ولاةً على المدن ، لهذا عيّن مالكاً الأشتر حاكماً على الموصل و سنجار و نصيبين و هيت و عانات ، و هي مناطق واقعة على حدود الشام .

كان معاوية قد أعلن العصيان للخلافة و انفرد بحكم الشام .

حاول الإمام إقناع معاوية بالطاعة فبعث برسائل عديدة و أوفد إليه من يتحدّث معه ، و لكن بلا فائدة .

لهذا جهّز الإمام جيشاً و أسند قيادته إلى مالك الأشتر .

زحف الجيش باتجاه الشام و وصل منطقة " قرقيسيا " فاصطدم بجيش الشام تحت قيادة " أبي الأعور السلمي " .

حاول مالك الأشتر إقناع " قائد الجيش " بإنهاء التمرّد و الدخول في طاعة أمير المؤمنين الذي ارتضاه الناس خليفة لهم فرفض ذلك .

و في الليل ، انتهز جيش الشام الفرصة و قام بهجوم دون سابق انذار ، و كان هذا العمل مخالفاً للشريعة و الأخلاق لأنّه غدر .

قاوم جيش الخلافة الهجوم المباغت و كبّد المهاجمين العديد من القتلى و أجبره على الإنسحاب إلى مواقعه .

و مرّة اُخرى تجلّت فروسية مالك الأشتر ، فارسل إلى " أبي الأعور " مبعثواً يدعوه للمبارزة .

قال الرسول :

ـ يا أبا الأعور إن مالك الأشتر يدعوك للمبارزة .

جبن قائد جيش معاوية و قال :

ـ لا أُريد مبارزته .

وصلت إمدادات كبيرة بقيادة معاوية ملتحقة بجيش الشام .

و تقابل الجيشان في سهل " صفين " على ضفاف نهر الفرات .

احتلّت قطعات من جيش معاوية الشواطئ و فرضت حصاراً على النهر .

كان هذا العمل أيضاً مخالفاً للشريعة الإسلامية و لتقاليد الحروب .

بعث الإمام أحد صحابة النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) و هو " صعصعة بن صوحان " للتفاوض :

دخل صعصعة خيمة معاوية و قال :

ـ يا معاوية إن عليّاً يقول : دعونا نأخذ حاجتنا من الماء حتى ننظر فيما بيننا و بينكم ، و إلاّ تقاتلنا حتى يكون الغالب هو الشارب .

سكت معاوية و قال :

ـ سوف يأتيك ردّي فيما بعد .

خرج مبعوث الإمام ، و استشار معاوية رجال فقال الوليد بحقد :

ـ امنع الماء منهم ، حتى يضطروا للاستسلام .

و حظي هذا الرأي بتأييد كامل .

لقد جمع معاوية حوله كلّ الأشرار الذين لا يعرفونه حرمة للدين و الإنسانية .

كان مالك الأشتر يراقب ما يجري على الشواطئ فشاهد وصول تعزيزات عسكرية ، فأدرك أن معاوية يفكِّر بتشديد الحصار .

شعر جنود الإمام بالعطش ، و كان مالك عطشان أيضاً ، فقال له جندي :

ـ في قربتي ماء قليل اشربه .

رفض مالك ذلك و قال :

ـ كلاّ حتى يشرب جميع الجنود .

ذهب مالك إلى الإمام و قال :

ـ يا أمير المؤمنين ان جنودنا يصرعهم العطش و لم يبق أمامنا سوى القتال .

أجاب الإمام :

أجل لقد أعذر من أنذر .

و خطب الإمام في الجنود و حثّهم على الاستبسال قائلاً :

ـ الموت في حياتكم مقهورين .

و الحياة في موتكم قاهرين .
أي أن الموت هو أن يرضى الإنسان بالذلّ .

و انّ الحياة في أن يموت المرء شهيداً .

و قاد مالك الأشتر أوّل هجوم في حرب صفين و راح يقاتل ببسالة و يتقدّم باتجاه شواطئ الفرات .

و بعد اشتباكات عنيفة تمّ تحرير ضفاف النهر و إجبار جيش معاوية على الإنسحاب .

أصبح جيش معاوية بعيداً عن المياه ، و لهذا فكّر في حيلة لاستعادة مواقعه على نهر الفرات .

و في اليوم التالي سقط سهم بين جنود الإمام و كان في السهم رسالة ، قرأها الجنود باهتمام .

و انتقلت الرسالة بين الجنود بسرعة و انتشر الخبر : " من أخ ناصح لكم في جيش الشام : ان معاوية يريد أن يفتح عليكم النهر و يغرقكم ، فاحذروا " .

و صدّق الجنود ما ورد في تلك الرسالة فانسحبوا و انتهز جيش الشام الفرصة فأعاد احتلاله للشواطئ مرّة اُخرى .

غير أن جيش الإمام شن هجوماً كاسحاً و حرّر المنطقة من قبضة الاحتلال .

شعر معاوية بالقلق ، فسأل عمرو بن العاص :

ـ هل تظنّ ان عليّاً سيمنع علينا الماء ؟

أجاب عمرو بن العاص :

ـ إن عليّاً لا يفعل مثلما تفعل أنت .

كان جنود الشام يشعرون بالقلق أيضاً .

و لكن سرعان ما وصلت الأخبار بأن الإمام عليّاً سمح لهم بورود النهر و ترك لهم مساحة من الشواطئ كافية .

أدرك بعض أهل الشام الفرق بين معاوية و علي ، فمعاوية يفعل كلّ شيء من أجل أن ينتصر ، أمّا علي فلا يفكّر في ذلك ، إنّه يسير في ضوء المُثل و الأخلاق الإنسانية .

لهذا تسلل بعض الجنود ليلاً و انتقلوا إلى جبهة علي لأنّها تُمثّل الحقّ و الإنسانية .




معاوية


كان معاوية يشعر بالقلق من وجود مالك الأشتر ، لأن شجاعته و بسالته في القتال ألهب الحماس في جيش علي و بثت الذعر في جنود الشام .

فكّر معاوية في القضاء عليه عن طريق المبارزة الفردية ، فعرض الأمر على مروان ، و لكن مروان كان يخاف من مالك فاعتذر إلى معاوية و قال :

ـ لماذا لا تكلّف " ابن العاص " بذلك فهو ساعدك الأيمن .

عرض معاوية اقتراحه على عمرو بن العاص فاضطر لقبوله .

خرج ابن العاص يطلب مبارزة الأشتر .

تقدّم مالك نحوه و بيده رمحه ، و لم يترك له فرصة للدفاع فسدّد له ضربة عنيفة جرحت قسماً من وجهه فلاذ عمرو بن العاص بالفرار .