استشهاد عمّار
تصاعدت حدّة الاشتباكات و كان عمّار يقود الجناح الأيسر من جيش الإمام ، و يقاتل ببسالة رغم شيخوخته .
و عندما جنحت الشمس للمغيب طلب عمّار رضي الله عنه شيئاً يفطر به لأنّه كان صائماً .
أحضر أحد الجنود إناءً مليئاً باللبن و قدّمه إليه ، استبشر عمّار بذلك و قال :
ـ ربّما أُرزق الشهادة هذه الليلة فقد قال لي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : يا عمّار تقتلك الفئة الباغية ، و آخر شرابك من الدنيا ضياح ( إناء ) من لبن .
أفطر الصحابي الجليل و تقدّم إلى ساحات القتال بقلبٍ عامر بالإيمان و ظلّ يقاتل حتى هوى على الأرض شهيداً .
جاء الإمام و جلس قرب الشهيد و قال بحزن :
ـ رحم الله عمّاراً يوم أسلم ، و رحم الله عمّاراً يوم استشهد ، و رحم الله عمّاراً يوم يبعث حيّاً . هنيئاً لك يا عمّار .
كان لإستشهاد عمّار بن ياسر في ساحة الحرب أثره في سير المعارك ، فقد ارتفعت معنويات جيش الإمام فيما انخفضت لدى جنود معاوية ، لأن المسلمين جميعاً يحفظون حديث سيّدنا محمّد ( صلى الله عليه وآله ) لعمّار بن ياسر : " يا عمّار تقتلك الفئة الباغية " أي المعتدية .
و أدرك الجميع ان معاوية و جنوده هم المعتدون و انّ علياً و أصحابه على الحقّ .
لهذا تصاعدت حدّة الحملات الهجومية في جبهة الإمام ، و راح معاوية و جيشه يستعدّون للهزيمة .
حيلة جديدة
فكّر معاوية بحيلة جديدة يخدع بها جيش الإمام ، فاستشار " عمرو بن العاص " .
قال عمرو بن العاص :
ـ أرى أن نخدعهم بالقرآن . نقول لهم : بيننا و بينكم كتاب الله .
فرح معاوية لهذه الحيلة و أمر برفع المصاحف على الرماح .
عندما شاهد جنود الإمام المصاحف ، فكّروا في إيقاف الحرب ، و بذلك انطلت الحيلة على كثير من الجنود .
قال الإمام : انّها مكيدة . أنا أوّل من دعا إلى كتاب الله و أوّل من أجاب إليه . انّهم عصوا الله فيما أمرهم و نقضوا عهده .
و لكن عشرين ألفاً من الجنود عصوا أمر الإمام و قالوا :
ـ اصدر أمرك بايقاف القتال و قل للأشتر ينسحب .
أرسل الإمام أحد الجنود إلى مالك الأشتر يأمره بايقاف العمليات الحربية .
استمر مالك الأشتر في القتال و قال :
ـ ما هي إلاّ لحظات و نحرز النصر النهائي .
قال الجندي :
ـ و لكن الإمام محاصر بعشرين ألف من المتمرّدين و هم يهددون بقتله إذا لم توقف القتال .
اضطر مالك الأشتر للإنسحاب و قال :
ـ لا حول و لا قوّة إلاّ بالله .
التحكيم
كان مالك الأشتر يدرك أن ما قام به معاوية هو مجرّد حيلة ، و لكنه انصاع لأمر الإمام حتى لا تحدث الفتنة ، فكان قائداً شجاعاً و جندياً مطيعاً .
توقفت المعارك و اتفق الطرفان على الاحتكام إلى كتاب الله .
فأرسل معاوية عمرو بن العاص ممثّلاً عنه في المفاوضات .
و أراد الإمام أن يختار رجلاً عاقلاً فطناً عالماً بكتاب الله فاختار عبد الله بن عباس حبر الاُمّة .
و لكن المتمرّدين رفضوا ذلك مرّة اُخرى و قالوا :
نختار " أبا موسى الأشعري " .
فقال الإمام ( عليه السَّلام ) ناصحاً :
ـ أنا لا أرضى به ، و عبد الله بن عباس أجدر منه .
رفض المتمردون ذلك فقال الإمام :
ـ إذن اختار الأشتر .
فرفضوا أيضاً و أصرّوا على " أبي موسى الأشعري " .
و حتى لا تحدث الفتنة قال الإمام :
ـ اصنعوا ما شئتم .
و هكذا اجتمع الممثلان للمفاوضات .
فكّر عمرو بن العاص أن يخدع " الأشعري " فقال له :
ـ يا أبا موسى إن سبب الفتنة وجود معاوية و علي ، فتعال لنخلعهما عن الخلافة و نختار رجلاً آخر .
كان " الأشعري " لا يحبّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فرحّب بالفكرة ، فقال أمام الجميع :
ـ إنّني أخلع عليّاً عن الخلافة كما أخلع خاتمي من يدي .
ثم نزع خاتمه .
و هنا قال عمرو بن العاص بخبث :
ـ أما أنا فأُثبّت معاوية في الخلافة كما أُثبّت خاتمي في يدي .
ثم لبس خاتمه .
شعر المتمرّدون بالندم ، و بدل أن يتوبوا و يعودوا إلى طاعة أمير المؤمنين فإنّهم طلبوا من الإمام أن يتوب و يعلن الحرب .
و لكن الإمام كان إنساناً يحترم العهود و المواثيق و قد اتّفق على الهدنة و إيقاف القتال لمدّة سنة .
طلب الإمام منهم أن يصبروا هذه المدّة و لكنهم عصوا أوامره أيضاً و خرجوا على طاعة الإمام لهذا سمّوا ب " الخوارج " .
مصر
فكّر معاوية أن يستولي على مصر ، فأرسل جيشاً كبيراً لاحتلالها .
كان الوالي على مصر محمّد بن أبي بكر " الخليفة الأوّل " .
أرسل الوالي يطلب الإمدادات العسكرية بأقصى سرعة قبل أن تسقط مصر بأيدي الغزاة .
فأرسل الإمام مالكاً الأشتر و قال له :
ـ توجّه إلى مصر رحمك الله ، و لست أوصيك بشيء لأنني أكتفي برأيك .
استعن بالله .
استعمل اللين في مواضعه و الشدّة في مواضعها .
و انطلق الأشتر إلى مصر .
السمّ و العسل
شعر معاوية بالقلق فهو يدرك ان وصول مالك الأشتر إلى مصر يعني إنقاذها ، لهذا فكّر بقتله .
كان معاوية إذا أراد أن يغتال شخصاً دسّ إليه العسل المخلوط بالسمّ .
و كان معاوية يستورد هذه السموم من القسطنطنية ، و كان الروم يسمحون بتصديرها لأنّهم يعرفون ان معاوية يستخدمها لقتل المسلمين .
قال عمرو بن العاص :
ـ انّي أعرف رجلاً يسكن مدينة القلزم على حدود مصر و هو يملك أراضٍ واسعة و لابدّ أن يمرّ الأشتر في هذه المدينة و يتوقّف فيها للإستراحة .
قال معاوية :
ـ إذن اتصل به و اخبره إذا تمكّن من اغتيال الأشتر فسنعفيه من دفع الضرائب مدى الحياة .
و هكذا انطلق مبعوث معاوية على وجه السرعة ، و أخذ معه العسل المسموم ليتصل بذلك الرجل و يقنعه بهذه المهمّة
الشهادة
وافق الرجل على اقتراح معاوية و أخذ الخليط القاتل ، يترقّب وصول مالك الأشتر .
و بعد أيام قليلة وصل مالك مدينة القلزم .
دعا الرجل والي مصر الجديد لأن يحلّ ضيفاً في منزله .
لبّى مالك الأشتر الدعوة شاكراً .
وضع الرجل إناء العسل المسموم في مائدة الطعام .
و عندما تناول الضيف ملعقة واحدة شعر بألم شديد في أمعائه و أدرك المؤامرة ، فقال و هو يضع يده على بطنه :
ـ بسم الله . . إنّا لله و إنّا إليه راجعون .
و استقبل مالك الأشتر الموت بشجاعة المؤمن المطمئن الذي يعرف انّ طريقه هو طريق الإسلام و الجنّة .
و عندما استشهد مالك الأشتر ، كاد معاوية أن يطير من الفرح و قال :
ـ لقد كانت لعليّ بن أبي طالب يدان .
قطعت إحداهما يوم صفين و هو عمّار بن ياسر .
و قطعت الاُخرى اليوم و هو مالك الأشتر .
أمّا أمير المؤمنين علي ( عليه السَّلام ) فقد شعر بالأسف العميق و قال بحزن :
ـ رحم الله مالكاً . .
فقد كان لي كما كنت لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
أي ان مالكاً ( رضوان الله عليه ) كان يحبّ عليّاً و يطيعه كما كان عليّ ( عليه السَّلام ) يحبّ سيدنا محمّداً ( صلى الله عليه وآله ) و يطيعه .
و هكذا ختم مالك الأشتر ( رضوان الله عليه ) حياته الحافلة بالجهاد لتبقى سيرته المضيئة مثالاً لشباب الإسلام في كل مكان .
وأنــا أحببت أن أقــول أنـــه كمــا كــان مولانا أمير المؤمنين لرسولنا الكريمـ
كــان مالــك الأشتر لمــولانـــا علي بن ابي طالب
المفضلات