• ملابسات اجتماع السقيفة
1- إن الذين حضروا اجتماع السقيفة لم يكونوا كثرة من جماهير المسلمين كما يتوهم البعض، فالسقيفة لا تتسع أصلاً لاجتماع جماهيري، وإنما كانوا جمعاً من أرباب النفوذ وذوي المطامح والمطامع والتطلعات السلطوية من رؤوس الأنصار.
- أوسهم وخزرجهم - ولم يحضره من المهاجرين سوى أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، ذهبوا إليه متسللين لانتهاز الفرصة في غياب أهل الرأي والمشورة وغياب جماهير المسلمين، الذين كانوا ملتفين - في حزن عميق وألم شديد - حول حجره رسول الله (صلى الله عليه وآله) والدموع تسيل من مآقيهم حزناً وألماً لوفاة نبيهم الجليل.
2- ليس من المسلمات العقلية ولا النقلية أن تكون الكثرة دائماً مع الحق، بل العكس هو الصحيح في أغلب الأحيان، وذلك لأسباب نفسية واجتماعية كثيرة، ليس هنا مجال بحثها، واستمع معي إلى ما يقرره لقرآن الكريم عن موقف الكثرة:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين)[سورة يوسف: الآية 102].
(وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون)[سورة يوسف: الآية 106].
(إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون)[سورة البقرة: الآية 242].
(وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله)[سورة الأنعام: الآية 116].
(قل إن علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون)[سورة الأعراف: الآية 187].
(لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون)[سورة الزخرف: الآية 78].
(وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين)[سورة الأعراف: الآية 102].
(يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون)[سورة المائدة: الآية 102].
(إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)[سورة هود: الآية 17].
3- فإذا كانت هذه حال الكثرة، فبأي ميزان عقلي أو شرعي ننفي عن الكثرة إمكانية النسيان أو التناسي؟! إن الكثرة ليست عاصمة من النسيان أو التناسي، بل هي محلهما في الغالب الأعم من أحوالها وأمورها ومواقفها، والواقع يؤكد ذلك ويثبته، خاصة بالنسبة لجمع نفضوا أيديهم من الانشغال بتجهيز الرسول الكريم والصلاة عليه ودفنه، وسارعوا إلى ساحة الصراع على السلطة، ونسأل عمن اعتبروا (جلة الصحابة):
- كيف نسي عمر أو تناس قوله تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) [سورة النجم: الآية 3] عندما قال: إن نبيكم ليهجر، أو استفهموه! ما باله؟ أيهجر؟!(1).
وكيف نسي قوله تعالى (إنك ميت وإنهم ميتون)[سورة الزمر: الآية 30]، حين استلّ سيفه وروّع به جموع المسلمين وهو يصرخ: إن محمداً لم يمت وقد ذهب إلى ربه وسيعود فيقطع أيدي وأرجل أناس أدّعوا أنه مات(2).
- وكيف نسي زعماء الأنصار الذين هرعوا إلى السقيفة أو تناسوا قول نبيهم (الأئمة من قريش)(3) أو (لا تقوم الساعة حتى يكون على هذه الأمة اثنا عشر خليفة كلهم من قريش)(4).
- وكيف نسيت (أم المؤمنين) عائشة قول ربها (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرّجن برّج الجاهلية الأولى)[سورة الأحزاب: الآية 33]، وقول نبيها: (كأني بإحداكن تنبحها كلاب الحوأب، وإياك أن تكوينها يا حميراء(5). خاصة وقد ذكرتها أم سلمة كل ذلك فأبت أن تتراجع عن الفتنة الهوجاء التي أثارتها وفرقت بها المسلمين.
- وكيف نسي أبو بكر قوله تعالى على لسان نبيه زكريا (عليه السلام) (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك ولياً. يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضياً)[سورة مريم: الآية 5-6] وقوله تعالى: (وورث سليمان داوود)[سورة النمل: الآية 16] حين اغتصب أرض فدك من فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحرمها من فيئها.
- وكيف نسي الزبير قول رسول الله له (ستقاتله - أي علياً - وأنت له ظالم)(6) حين قاد الجيوش مع معاوية لقتال الخليفة الشرعي المنتخب من قبل الأمة، الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
- وكيف نسي عثمان بن عفان أن رسول الله قد نفى الحكم بن العاص إلى الطائف ولعنه وما ولد وحرّم عليه سكن المدينة المنورة، وقال عنه: (من عذيري من هذا الوزغ)(7)، وقوله عن مروان بن الحكم (هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن الملعون)(8)، حين أعادهما إلى المدينة، وجعل مروان مستشاره الخاص وحامل أختامه، والمستحكم برقاب وأموال المسلمين، ونسي قول رسول الله في أبي ذر: (ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر)(9)، حين نفاه عن المدينة إلى الربذة فمات هناك وحيداً مصداقاً لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) (رحم الله أبا ذر يموت وحده ويبعث وحده).
- وكيف نسي المجتمعون في السقيفة بيعتهم بالإمامة والخلافة لعلي بن أبي طالب يوم غدير خم(10)، تلك الواقعة المشهورة المشهودة.
ولا أدري لعمري أنسي هؤلاء جميعاً أم تناسوا؟!
قاطعني صاحبي قائلاً: أو ليس قد قال النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تجتمع أمتي على خطأ) أو (على ضلالة)؟! أليس الإجماع عاصماً؟.
قلت: نعم، إجماع الأمة عاصم لمجموع الأمة على وجه العموم الجمعي، - كما هو منطوق ومفهم الإجماع - لا على وجه العموم الاستفراقي. أي أن العصمة تكون للإجماع الذي يعم كل الأمة أو كل علمائها، لأنه عندئذ كاشف عن دخول المعصوم فيهم، أما الإجماع القائم على وجه الكثرة أو الغلبة، فقد عرفت حاله فيما قدمنا، وحيث غاب الإمام مع جمع من الأنصار وجميع المهاجرين عدا ثالوث أبي بكر - عمر - أبي عبيدة فقد انقطعت العصمة عن هؤلاء المجتمعين في السقيفة، وأصبح احتمال كل من النسيان أو التناسي - عصياناً وانحرافاً - احتمالاً وارداً لا يمكن رده.
4- إن أحداث السقيفة ورواياتها ليست مسلمة بشكل مؤكد بالصيغة التي رويت بها، وظاهر كل الظهور أن هذه الروايات من تلك الأحداث لم تكتب دفعة واحدة، وإنما حبكت على مراحل متتابعة، وبما يخدم السلطات الحاكمة - الأموية منها والعباسية - وقد تم إخضاعها لعمليات الحذف والإضافة والتزويق والتنسيق المرة تلو المرة، حتى وصلت إلينا بصيغتها الأخيرة التي رواها بها الطبري والمسعودي وابن قتيبة وغيرهم من المؤرخين.
* أنا أحق وأجدر بها منك ومن صاحبك يا عمر، ولئن كنتم نسيتم أو تناسيتم يوم غدير خم، يوم بخبختم لي وبايعتموني أنت وصاحبك والمسلمون.
* ألستم قد احتججتم عليهم بمكان رسول الله منكم؟ فأنا ألصق به مكاناً وأقرب إليه نسباً وصهراً.


ومع ذلك كله فقد بقيت في هذه الروايات إشارات مبثوثة، ومقاطع مبعثرة، تلفت النظر السليم، وتهدي بصيرة اللبيب، ومنها على سبيل المثال ما ورد من قول الأنصار أو بعضهم: (لا نبايع إلا علياً)(11) هذا القول ما أشبهه بشجرة خضراء مثمرة في صحراء قاحلة مرملة، أو قصر منيف بين مجموعة من بيوت الشعر!!.
هؤلاء الأنصار أو بعضهم، متى قالوا هذا القول؟ وما هي حجتهم في تخصيص علي، وكيف سكتوا أو أسكتوا بعد هذا القول الجازم الحازم؟ ومارد بقية الأنصار وثالوث المهاجرين على هذا القول؟!
كل هذه الأسئلة لا يجيب عليها التاريخ، وما غيب هذه الأجوبة إلا الحذف والإضافة كما شاء الرواة إرضاء لحكامهم وأولياء نعمتهم، مما شوه التاريخ وطمس حقائقه، إنها السياسة وبيع الدين بالدنيا، ألا قائل الله السياسة والجري وراء الأهواء والشهوات ومطامع الدنيا.
ونحن لابد أن نسأل: أبدون حجة ألقوها ولا بينة أبدوها قال هؤلاء الأنصار بصيغة حاسمة جازمة (لا نبايع إلا علياً)؟!. أم أنهم أسكتوا قبل الإدلاء بأي بينة أو حجة؟! إنه لوضع غريب وأمر مريب، بمنعنا من أن نثق بكل تلك الروايات ونسلم بها.
5- إذا كان الأنصار حقاً هم الذين بدأوا معركة الصراع على السلطة حين اجتمعوا في السقيفة، وحدهم دون دعوة المهاجرين، فإن سؤالاً جوهرياً يقفز إلى الأذهان، ما الذي دفعهم إلى ذلك الموقف وهم الذين سبق لهم أن بايعوا علياً يوم غدير خم؟! أكان ذلك منهم طمعاً في السلطة أم خوفاً على أنفسهم من قريش بعد أن أيقنوا أنها لن تخلي بين علي وخلافة المسلمين؟! ولاحظوا ما يحاك في السر والعلن من مؤامرات لاستئثار قريش بالسلطة(12)، وفيهم من الطلقاء الذين أسلموا أخيراً يوم فتح مكة من يخاف الأنصار جوره وظلمه وحيفه وانتقامه لو استولى على مقاليد السلطة.
هذه ناحية، والأخرى أن الخلافة إن خرجت عن عهدة أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام)، فأية ميزة تبقى لسواه من المهاجرين على بقية الأنصار؟!
وبماذا يستحقون الخلافة والإمارة دونهم؟!.
6- وأخيراً - وأرجو أن لا أكون قد أطلت عليك يا صاحبي - فإن جماهير المسلمين المحتشدين في المسجد النبوي حول حجرة رسول الله، الغافلين عن كل ما كان يجري حولهم، فاجأهم صوت التكبير خارج المسجد، فاشر أبوا يستطلعون النبأ المذهل، ليروا أصحاب السقيفة قد اقبلوا بأبي بكر يزفونه زفة العروس، يتقدمهم عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح، لا يمرون على أحد من المسلمين إلا خبطوه بعنف وأخذوا يده فمسحوها على يد أبي بكر طائعاً أو مكرهاً(13)، حتى أخذوا له بيعة صورية لا نص عليها ولا شورى فيها، ولا تتمتع بأي مسحة شرعية، حتى أن عمر نفسه قال عنها بعد أن خلفه في السلطة (إن بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها