الجن و سيدنا سليمان عليه السلام
قبل أن نعرف جن سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام ، علينا أن نعرف سليمان ذاته و لماذا سخر الله له بعض الجن ؟ يقول الله عز وجل:
و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس عُلمنا منطق الطير و أوتينا من كل شيءٍ ، إن هذا لهو الفضل المبين (16) و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و ا لطير فهم يوزعون (17 النمل) .
تدل الآية على أن سليمان ورث داود عليهما السلام ، فماذا ورث منه ، النبوة و الملك ، فكلاهما نبي و كلاهما ملك على بني إسرائيل ، لكن سيدنا سليمان أضاف أنه قد عُلِّـم منطق الطير و أوتي من كل شيء و أكد أنه فضلٌ عظيم ، ثم أنه حشر له جنوده من الجن والإنس و الطير .
فما أوتي سليمان عليه السلام ليس منطق الطير فقط ، بل جنودٌ من الطير كما كان له جنودٌ من الإنس و كذلك من الجن ، فلماذا استحق هذا النبي دون غيره من الأنبياء بهذه الميزة الفريدة ؟ يقول الله تبارك و تعالى :
قال ربي اغفر لي و هب لي ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدي إنك أنت الوهاب (35) فسخرنا له الريح بأمره رُخاءً حيث أصاب (36) و الشياطين كلُّ بناءٍ و غواص (37) و آخرين مقرنين في الأصفاد (38 ص ) .
فالريح مسخرة له ، و كذلك الشياطين الذي يبدو أنهم من شياطين الجن ، وماذا كانوا يفعلون ؟ منهم الغواص و البناء ، فهم يغوصون –ربما لاستخراج اللؤلؤ – و البناء هو متخصص في فن المعمار ، أما شياطين سيدنا سليمان عليه السلام فيفترض أن يكونوا من المطيعين ، إذ يخدمون نبي الله ، و هكذا يبدو من الآيات ..
و لسيمان الريح عاصفةً تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و كنا بكل شيءٍ عالمين (81) و من الشياطين من يغوصون له ويعملون عملاً دون ذلك و كنا لهم حافظين (82 الأنبياء ) .
فالله وصف ذاته بأنه حافظٌ لهؤلاء الشياطين ، مما يعني أنهم طيبون وليسوا أشراراً ، ثم أن عملهم لم يكن بالمعجزة الكبيرة فمن عملهم الغوص و دون ذلك (أقل من الغوص ، و مثله) ، الذي ربما كان الجن فيه أمهر من البشر في ذلك الزمان .
و من المعجزات التي فعلها الجن و الشياطين عندما كانوا في خدمة النبي سليمان عليه السلام هو نقل عرش بلقيس إلى المكان الذي طلبه منهم النبي ضمن ملكة ، و الأرجح في عاصمته ، وذلك لقوله تعالى :
قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين (38) قال عفريتٌ من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك ، و إني عليه لقويٌ أمين (39) قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ، فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ، ليبلوني أأشكر أم أكفر ، و من شكر فإنما يشكر لنفسه ، و من كفر فإن ربي غنيٌ كريمٌ (40 النمل) .
لقد تم شرح كلمة العفريت و الشيطان في فصل الشيطان ، و هنا نعيد الآية للعلم بأن عرش بلقيس (ملكة سبأ) سيأتي به صاحب علمٍ من الكتاب ، فهل كان سيدنا سليمان يريد العرش تماماً كما هو (العرش تعنى كرسي الملك ، و تاج الملك ، و المملكة بكل حدودها و تعني أيضاً ما يعرش على الملك للظل) لكن كما يبدوا أنه كان يطلب قصرها ، والذي جاء به من عنده علم من الكتاب و الكتاب لم يعلم ما هو ، بل أن سرعة الجيء ستكون بسرعة الضوء ، و نحن نعرف أن أي شيءٍ يسير بسرعة الضوء يحترق ، فكيف تمكن هذا المخلوق من إحضار عرش بلقيس بهذه السرعة ؟ ، و في الآية التالية نجد سيدنا سليمان يأمر بتنكير العرش ، فما هو نوع التنكير ؟ قال تعالى على لسان سيدنا سليمان عليه السلام :
قال نكّروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون (41) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك ، قالت كأنه هو و أوتينا العلم من قبلها و كنا مسلمين ( 42 النمل).
هنا تشكك بلقيس في عرشها فلم تقل إنه هو ، بل (كأنه هو) مما يعطي الانطباع بأن هذا القصر قد لا يكون إلا صورة مشابهة لقصرها ، و مع التنكير يزداد الفارق فتشكك صاحبته فيه ، و سبب التشكيك أنها لم تكن تؤمن بالقضاء والقدر " صدها ما كانت تعبدُ من دون الله " فلو كانت مؤمنة لصدقت بأن هذا سيكون صرحها ، و هو تمثيل للكافر الذي لا يؤمن بقدرة الله على فعل أي شيء ، و ما يدل على أن الصرح لا يعدوا شكلاً مشابهاً لصرح الملكة ، هو أنه عندما طلب منها الدخول حسبته ماءً ، في الآية التالية لما سبق ..
و صدها ما كانت تعبدُ من دون الله ، إنها كانت من قومٍ كافرين (43) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجةً و كشفت عن ساقيها ، قال إنه صرحً ممردٌ بقوارير ، قالت رب آني ظلمتُ نفسي و أسلمتُ مع سليمان لله رب العالمين (44 النمل) .
هنا يبين سيدنا أن هذا القصر ممرد بقوارير (مبلطٌ بالزجاج) فكان الزجاج كهيئة الماء (لجة) ، فهاهو ا لنبي سليمان عليه السلام يؤكد أن هذا الصرح مصنوع " قال إنه صرحً ممردٌ " و ليس منقول ، مما يدعونا إلى الظن بأن الذي عنده علم من الكتاب عمل تصوراً للقصر و جاء بصورته ، و كأننا ننقل مباراة لكرة القدم تقدم في بلد يقع في أقصى الدنيا اليوم ، و الله أعلم .
وبذا نستدل على أن الله أعطى سليمان عليه السلام ما لم يعط غيره بناءً على طلبه ، فمع الريح أعطاه منطق الطير ، و يستمع للنملة فيعرف ما تقول ، وسخر له الجن فهو يعملون له ما لا يستطيع البشر عمله آنذاك ، و لم يكن هؤلاء الجن بصفات تختلف عن البشر ، و لا يعلمون الغيبيات ، و أنه أقل ما يمكن أن يوصفوا به أنهم كالبشر و أضعف منهم اليوم لما توصل إليه الإنسان من تقدم تقني ، ففي الآية ...
ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير (12) يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور (13) فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (14 النمل) .
فالجن هنا يعملون المحاريب و التماثيل (المباني المتماثلة) و أشياء مادية ملموسة ، مما يعني أنهم كانوا جسداً كالبشر فينقلون المواد و نحو ذلك ، أما علمهم بالغيب فهو لا يختلف عن الناس ، و هذا يتوافق مع سبب خلقهم كما ذكرت في فصل الجن ، فهم لم يعلموا بموت سيدنا سليمان بن داود عليهما السلام إلا بعد أن أكلت دابة الأرض (النمل الأبيض – الرمة) عصاه التي يتوكؤ عليها .
نستنتج من هذا الفصل أن وجود الجن في الأرض في عهد سيدنا سليمان عليه السلام كان بسبب طلبة أن يؤتى ملكاً لا يؤتى أحدٌ من بعده ، فأعطاه الله منطق الطير و الحشرات ، و الرياح بما تحمل من أمطار ، ثم أعطاه فريق من الجن ، سخره تحت إمرته يستفيد منهم ، ما بين عالم و عفريت وعامل متفنن في البناء و الغوص ، و المهارات التي لم يكن الإنسان بارعاً فيها بعد .
و الله أعلم .
منقول..
بحر الشوق
المفضلات