↩ 【الوسواسي الشكاك في العبادات (نظرة علاجية)】
سؤال وجواب مع سيد أمين السعيدي.



◀ السائل:

السلام عليكم..

سؤال: شخص كثير الشك في الصلاة والمعروف ان المكلف اذا كان كثير الشك لا يعتني بشكه، ولكن هذا المكلف لا يعرف شكوك الصلاة والاحكام الابتلائية، وهو يعرف نفسه جيداً انه حتى لو تعلمها فانه لن يتغير شيئا لانه كثير الشك ولن يعتني بشكه في نفس الوقت، اي انه لا فائدة من تعلمه لاحكام شكوك الصلاة، فما هو حكم صلاته قبل التعلم؟ وهل يجب عليه تعلم الاحكام الابتلائية وتطبيقها في الصلاة؟


جواب سماحة السيد أمين حفظه الله:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، تحيّة طيّبة لكم وبعد: هذه مسألة شائعة وشائكة ومركّبة من فروع، وتحتاج لبيان يتناول أبعادها؛ فالقول كما يلي:

بالنّسبة إلى أنَّ حكم كثير الشّك هو عدم الاعتناء بشكه فصحيح، بل (يجب شرعاً) أن لا يعتني بشكّه، فالمشرِّع سبحانه لَـمّا أراد الصّلاة بكيفيّة معيّنة أرادها من هذا المبتلى بكيفيّة خاصّة أيضاً، تختلف عن غيره،

فالذي شَرَّع ذلك الحُكم هو نفسه سبحانه شَرَّع هذا الحُكم؛ تماماً كما في المريض الذي لا يتمكن من استعمال الماء للوضوء مثلاً، فيوجِب عليه استعمال التّراب، أو مثلاً مَن يصوم في شهر رمضان في سفره، فلا يقبل الله تعالى منه الصّيام مع أنّه وقع في شهر رمضان، أو مثلاً مَن تصوم يوماً من رمضان وهي حائض فلا يُقبل صيامها.

إذاً لكل حالة قانون خاص بها، وكثير الشك عليه أن يـَتَّبِع حكمه الخاص وهو (وجوب) عدم الاعتناء بشكه.

هذا مِن جهة التقنين والتشريع، وفي المقابل مِن جهة تحليليّة لروح الشّريعة وتقنيناتها نجد أنَّ الإسلام يوجِب على كثير الشك عدم الاعتناء بشكه لأغراض بليغة ومهمّة؛ ذلك نظراً إلى أنَّ لكل حُكم رباني مَبادئ وحِكَم وراء تشريعه؛ وهنا نذكر بعض أهم تلك الأغراض والحِكَم الكامنة في القانون الشرعي الخاص بكثير الشك؛ وهي كما يلي:

1- رفْع الحَرَج والمشقّة عن هذا المبتلى؛ (فالإسلام دِين يُسر لا عُسر)؛ قال عز وجل: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ}[البقرة: 185]، وقال: {يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّـنَ لَكُمْ ويَهْدِيَكُمْ}[النساء: 26]، وقال: {واللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ}[النساء: 27]، وقال سبحانه: {يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وخُلِقَ الإنسانُ ضَعيفاً}[النساء: 28].

2- دفْع كثير الشك للتّوجّه في صلاته إلى التّفكّر في معانيها، والتأمل في أبعاد الكلام الإلهي والأذكار الشّرعيّة الرّوحيّة، والتدبر في الأفعال التّربويّة الواردة فيها، وتجنيب الشّيطان عنه، وإبعاده عن الانغماس السّلبي في التّفكير تجاه الألفاظ والشّكل الظاهري من أفعالها (وهذا جانب نفساني لِارتباط المسألة في بعض جوانبها بالجهة النّفسيّة).

3- وهو ما نريده للجواب عن الشطر الثّاني من السّؤال: فمِن الأغراض المهمّة في إيجاب عدم الاعتناء بالشّك لدى كثير الشّك هو:

تمرينه وتمريسه بطريقة إيجابيّة على الخلاص من هذا الابتلاء؛ بمعنى أنَّ المكلّف كثير الشّك عندما يطبِّق هذا الوجوب سوف تَحْصل لديه بعد مدّة حصانة بنسبةٍ ما عن الوقوع في موارد شكّه، بحيث يـَعُود للحالة الطبيعيّة التي عليها عامّة النّاس.

وهناك غرض رابع له حكمة كبيرة أيضاً وهو: حماية مَن حوْل كثير الشّك من انتقال الشّكوك إليهم؛ فهذا الدّاء من الأمراض المُعْدية.

أضف إليه حماية نفس المكلّف مِن أن يقع في موضع السخريّة مِن سيّئي الأخلاق؛ مما قد يولِّد لديه رغبة في الاختباء أثناء العبادة، أو رغبة في الرّد عليهم والشّجار والمخاصمة معهم، أو حتى النّفور مِن العبادة وترْكها.

هذا؛ ومِن (الغرض الثّالث الذي ذكرناه) يتضح رد القول الوارد في سؤالكم بأنَّ (هذا المكلف يعرف نفسه جيّداً أنه حتى لو تَعَلَّم أحكام الشكوك لن يتغير شيء لأنه كثير الشّك ولن يعتني بشكّه)؛ فردُّ هذا القول هو أننا نَتساءل أولاً:

لماذا لن يتغير شيء؟ فهل يعني أنه إن تعلم سيبقى وسواسياً يهلوِس في أفعال الصّلاة وأذكارها؟ أم أنّه مصاب بضعف الذاكرة مثلاً؟

ج: على كلا التّقديرين يجب عليه أن يتعلم، فكما قلنا في رقم3 الإسلام يـَهْدف لمعالجة مشكلته ودائه؛ وبالتّالي حمايته عن سيطرة الشّيطان عليه، وحمايته عن خسرانه لتحقيق معاني وغايات الصّلاة فيه مِن أنّها {تَنهَى عن الفَحشاء والمُنْكَر}؛ لذا فإنَّ الفقهاء في كلا التقديرين يوجِبون عليه التعلّم؛ فالتّعلّم ينشِّط الذّاكرة، وتكرار الحفظ يرسِّخ المحفوظ في الذّهن، لكن فقط يحتاج لقليل من الممارسة، كما يحتاج لتطبيق حُكم (وجوب عدم الاعتناء بشكه) فعلاً؛ ليصل لنتيجة إيجابيّة.

عِلماً أنه إذا كان حاله هكذا الآن؛ فعليه -وفق فتوى الفقهاء- أن يصلّي مثلاً في المسجد، خلف مَن لا يصاب بهذه الهلاوس والشّكوك؛ فإنّ الصلاة في المسجد علاج، وتُسَرِّع في شفائه جداً.

قد تقول: هي امرأة وليس رجلاً، فكيف تذهب للمسجد في القُرى التي لا يوجد في مساجدها مكان للمرأة؟

فهذا تساؤل جيد، وجوابه أن صلاة الجماعة غير مشترَطة بالمسجد، فبإمكان المبتلَى -رجلاً كان أم امرأة- أن يصلي خلف شخص في البيت، بحيث تَتوفّر في ذلك الشخص الشرائط؛ كالعدالة والتلفظ الصحيح بشكل عرفي مقبول.


◀ وأمّا سؤالكم: هل صلاته باطلة بدون تعلّم؟

فجوابه: نعم؛ بلا ريب، إذا لم يتعلم ووقع في الخطأ الغير متجاوَز عنه شرعاً فصلاته باطلة؛ فهذا ما عليه جميع فقهائنا الأجلاء؛ حيث تنص جميع الرسائل العملية على: أن المسائل الابتلائيّة التي هي في معْرض ابتلاء المكلف (يجب) عليه أن يتعلمها قبل الوقوع فيها والابتلاء بها، فما بالك بما إذا كان المكلَّف واقعاً في ذلك ومبتلىً به؟ لا شك حينها هذا الوجوب سوف يصبح في حقه أشد وأقوى.


أقول ختاماً وأَستغفرُ الله لي ولك:

قال تعالى: {وإمّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشّيطانِ نَزْغٌ فاستعِذْ باللهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَليم * إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَاذا هُمْ مُبْصِرُونَ * وإخوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ}[الأعراف: 200 إلى 202]؛

أي إذا أصابك من الشيطان وسوسة أو وقعت في ذنب؛ فاستعذ بالله وتَحَصَّن به وتوكَّل عليه واعمل بأوامره سبحانه، ولا تعمل كيفما تريد، فهو يسمعك ويعينك، وهو عليم بكل شيء وعليم بالقوانين الصالحة لك، فهو المشرِّع لهذا الحُكم أو ذاك، وهو الخالق الصانع سبحانه.

فأهل الصلاح والإيمان والطاعة والتقوى إذا أصابهم من الشيطان وسواس أو ذنب؛ فإنهم مباشرة يتذكرون ربهم، ويتعاونون على إصلاح أنفسهم، ويُسانِدون بعضهم البعض، ويـَتفكرون في الأسباب والثغرات التي دخل لهم الشيطان من خلالها ووسوس لهم عن طريقها؛ فيسدون الطريق على الشيطان ووساوسه، سواء كان ذلك الشيطان من الجن أم من غواة الإنس.

بينما أهل السخرية واللعب واللهو، الذين تَسَلَّط عليهم الشيطان، ولعب بعقولهم؛ فإنهم يـَسْخرون ولا يُقَصِّرون في الإغواء لأنفسهم ولغيرهم؛ فالشياطين تغويهم وتَستهزِئ بهم.

أعاذنا الله وإياكم من ذلك، وجعلنا جميعاً أحباباً وأعواناً ومِن أهل الذِّكر والتقوى والاعتصام به تعالى والطاعة له.

نسألكم الدّعاء.
أمين السّعيدي-قم المقدّسة